الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون

أمن الله تعالى نبيه - صلى اللـه عليه وسلم - من ضررهم إذا أعرض عنهم؛ وحقر في ذلك شأنهم؛ [ ص: 174 ] والمعنى: إنك منصور ؛ ظاهر الأمر على كل حال؛ وهذا نحو من قوله تعالى للمؤمنين: لن يضروكم ؛ ثم قال تعالى: وإن حكمت ؛ أي: اخترت أن تحكم بينهم في نازلة ما؛ فاحكم بينهم بالقسط ؛ أي: بالعدل؛ يقال: أقسط الرجل: إذا عدل وحكم بالحق؛ وقسط: إذا جار؛ ومنه قوله: وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ؛ ومحبة الله للمقسطين ما يظهر عليهم من نعمه.

ثم ذكر الله تعالى بعد تحكيمهم للنبي - صلى اللـه عليه وسلم - بالإخلاص منهم؛ ويبين بالقياس الصحيح أنهم لا يحكمونه إلا رغبة في ميله في هواهم؛ وانحطاطه في شهواتهم؛ وذلك أنه قال: وكيف يحكمونك ؛ بنية صادقة وهم قد خالفوا حكم الكتاب الذي يصدقون به؛ وبنبوة الآتي به؛ وتولوا عن حكم الله فيهما؟ فأنت الذي لا يؤمنون بك؛ ولا يصدقونك؛ أحرى بأن يخالفوا حكمك.

وقوله تعالى: من بعد ذلك ؛ أي: من بعد حكم الله في التوراة في الرجم؛ وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله تعالى؛ وقوله تعالى: وما أولئك بالمؤمنين ؛ يعني بالتوراة وبموسى؛ وهذا إلزام لهم؛ لأن من خالف حكم كتاب الله فدعواه الإيمان به قلقة.

وهذه الآية تقوي أن قوله في صدر الآية: من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ؛ أنه يراد به اليهود.

وقوله تعالى: إنا أنزلنا التوراة ؛ الآية؛ قال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - كان يقول - لما أنزلت هذه الآية -: "نحن اليوم نحكم على اليهود؛ وعلى من سواهم من أهل الأديان"؛ والهدى: الإرشاد في المعتقد؛ والشرائع؛ والنور: ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها؛ والنبيون الذين أسلموا هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد - صلى اللـه عليه وسلم -؛ هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية؛ و"أسلموا"؛ معناه: أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى؛ وقوله تعالى: للذين هادوا ؛ متعلق [ ص: 175 ] بـ "يحكم"؛ أي: "يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل؛ وعليهم"؛ وقوله تعالى: "الربانيون"؛ عطف على "النبيون"؛ أي: ويحكم بها الربانيون؛ وهم العلماء؛ وفي البخاري قال: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم؛ قبل كباره؛ وقيل: الرباني: منسوب إلى "الرب"؛ أي: عنده العلم به وبدينه؛ وزيدت النون في "رباني"؛ مبالغة؛ كما قالوا: "منظراني"؛ و"مخبراني"؛ وفي عظيم الرقبة: "رقباني"؛ والأحبار أيضا: العلماء؛ واحدهم "حبر"؛ بكسر الحاء؛ ويقال بفتحها؛ وكثر استعمال الفتح فيه؛ للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به؛ وقال السدي : المراد - هنا - بالربانيين والأحبار الذين يحكمون بالتوراة: ابنا صوريا؛ كان أحدهما ربانيا؛ والآخر حبرا؛ وكانوا قد أعطيا النبي - صلى اللـه عليه وسلم - عهدا ألا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به؛ فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه؛ فنزلت الآية مشيرة إليهما.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وفي هذا نظر؛ والرواية الصحيحة أن ابني صوريا وغيرهما جحدوا أمر الرجم؛ وفضحهم فيه عبد الله بن سلام ؛ وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان؛ وأما في مدة محمد - صلى اللـه عليه وسلم - فلو وجد لأسلم؛ فلم يسم "حبرا"؛ ولا "ربانيا".

وقوله تعالى: بما استحفظوا ؛ أي: بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر التوراة؛ وأخذه العهد عليهم في العمل؛ والقول بها؛ وعرفهم ما فيها؛ فصاروا شهداء عليه؛ وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا حتى تبدلت التوراة؛ والقرآن بخلاف هذا؛ لقوله تعالى: وإنا له لحافظون ؛ والحمد لله ؛ وقوله تعالى: فلا تخشوا الناس واخشون ؛ حكاية ما قيل لعلماء بني إسرائيل؛ وقوله: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ؛ نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم؛ والتحيل للدنيا بالدين؛ وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة؛ وحكامها؛ ويحتمل أن يكون قوله تعالى: فلا تخشوا الناس ؛ إلى آخر الآية خطابا لأمة محمد - صلى اللـه عليه وسلم.

واختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون .

[ ص: 176 ] فقالت جماعة: المراد اليهود بـ "الكافرين"؛ و"الظالمين"؛ و"الفاسقين"؛ وروي في هذا حديث عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - من طريق البراء بن عازب .

وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم: الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله ؛ ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية؛ لا يخرجهم عن الإيمان.

وقيل لحذيفة بن اليمان : أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل؟ فقال: "نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل؛ إن كان لكم كل حلوة؛ ولهم كل مرة؛ لتسلكن طريقهم قدر الشراك".

وقال الشعبي : نزلت "الكافرون"؛ في المسلمين؛ و"الظالمون"؛ في اليهود؛ و"الفاسقون"؛ في النصارى.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ولا أعلم بهذا التخصيص وجها؛ إلا إن صح فيه حديث عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ إلا أنه راعى من ذكر مع كل خبر من هذه الثلاثة؛ فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلا على أنهم خوطبوا بقوله: "فلا تخشوا الناس"؛ وقال إبراهيم النخعي : نزلت هذه [ ص: 177 ] الآيات في بني إسرائيل؛ ثم رضي لهذه الأمة بها.

التالي السابق


الخدمات العلمية