الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور

قال المهدوي: "إذ" نصب بتقدير: واذكر.

[ ص: 205 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

أو بدل من "إذ" المتقدمة، وهو أحسن.

وتظاهرت الروايات أن هذه الآية نزلت في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى فيها عدد الكفار قليلا فأخبر بذلك أصحابه فقويت نفوسهم، وحرضوا على اللقاء، فهذا معنى قوله تعالى: في منامك أي: في نومك، قاله مجاهد وغيره.

وروي عن الحسن أن معنى قوله: في منامك أي: في عينك إذ هي موضع النوم، وعلى هذا التأويل تكون الرواية في اليقظة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا القول ضعيف، وعليه فسر النقاش وذكره عن المازني.

والضمير على التأويلين، من قوله: يريكهم عائد على الكفار من أهل مكة ، ومما يضعف ما روي عن الحسن أن معنى هذه الآية يتكرر في التي بعدها لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب في الثانية أيضا، وقد تظاهرت الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم انتبه وقال لأصحابه: "أبشروا فلقد نظرت إلى مصارع القوم"، ونحو هذا، وقد كان علم أنهم ما بين التسعمائة إلى الألف، فكيف يراهم ببصره بخلاف ما علم؟ والظاهر أنه رآهم في نومه قليلا قدرهم وحالهم وبأسهم مهزومين مصروعين، ويحتمل أنه رآهم قليلا عددهم، فكان تأويل رؤياه انهزامهم، فالقلة والكثرة على الظاهر مستعارة في غير العدد، كما قالوا: "المرء كثير بأخيه"، إلى غير ذلك من الأمثلة، والفشل: الخور عن الأمر، إما بعد التلبس وإما بعد العزم على التلبس. و ولتنازعتم أي: لتخالفتم، و في الأمر يريد: في اللقاء والحرب. و سلم لفظ يعم كل متخوف اتصل بالأمر أو عرض في وجهه فسلم الله من ذلك كله، وعبر بعض الناس أن قال: "سلم لكم أمركم" ونحو هذا مما يندرج فيما ذكرناه، وقوله: إنه عليم بذات الصدور أي: بإيمانكم وكفركم فيجازي بحسب ذلك. [ ص: 206 ] وقرأ الجمهور من الناس: "ولكن الله سلم" بشد النون ونصب المكتوبة، وقرأت فرقة: "ولكن الله" برفع المكتوبة.

وقوله تعالى: وإذ يريكموهم إذ التقيتم الآية، "وإذ" عطف على الأولى، وهذه الرؤية هي في اليقظة بإجماع، وهي الرؤية التي كانت حين التقوا ووقعت العين على العين، والمعنى أن الله تعالى لما أراد من إنفاذ قضائه في نصرة الإسلام وإظهاره قلل كل طائفة في عيون الأخرى، فوقع الخلل في التخمين والحزر الذي يستعمله الناس في هذا التجسس كل طائفة على الأخرى وتتسبب أسباب الحرب، وروي في هذا عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لقد قلت ذلك اليوم لرجل إلى جنبي: أتظنهم سبعين؟ قال: بل هم مائة. قال: فلما هزمناهم أسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال ألفا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويرد على هذا المعنى في التقليل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأل عما ينحرون كل يوم، فأخبر أنهم يوما عشرا ويوما تسعا، قال: "هم ما بين التسعمائة إلى الألف"، فإما أن عبد الله ومن جرى مجراه لم يعلم بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن نفرض التقليل الذي في الآية تقليل القدر والمهابة والمنزلة من النجدة، وتقدم في مثل قوله تعالى: ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، والأمر المفعول المذكور في الآيتين هو للقصة بأجمعها، وذهب بعض الناس إلى أنهما المعنيين من معاني القصة، والعموم أولى.

وقوله تعالى: وإلى الله ترجع الأمور تنبيه على أن الحول بأجمعه لله تبارك وتعالى، وأن كل أمر فله وإليه، وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر ، والأعمش : "ترجع" بفتح التاء وكسر الجيم، قال أبو حاتم : وهي قراءة عامة الناس، وقرأ الأعرج ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع وغيرهم: "ترجع" بضم التاء وفتح الجيم.

التالي السابق


الخدمات العلمية