الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 530 ] قوله عز وجل:

وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا

ظاهر هذه الآية والأحسن فيها أن يكون دعاء في أن يحسن الله حالته في كل ما يتناول من الأمور، ويحاول من الأسفار والأعمال، وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة، فهي على أتم عموم، معناها: رب أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري، وذهب المفسرون إلى أنها في غرض مخصوص، ثم اختلفوا في تعيينه -فقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : أراد: أدخلني المدينة وأخرجني من مكة ، وتقدم في هذا التأويل المتأخر في الوقوع، فإنه متقدم في القول لأن الإخراج من مكة هو المتقدم، اللهم إن مكان الدخول والفرار هو الأهم. وقال أبو صالح ، ومجاهد : أدخلني في أمر تبليغ الشرع، وأخرجني منه بالإعداد التام، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الإدخال بالموت في القبر، والإخراج البعث. وما قدمت من العموم التام الذي يتناول هذا كله أصوب.

وقرأ الجمهور: "مدخل" و "مخرج" بضم الميم، فهو جرى على: أدخلني وأخرجني. وقرأ أبو حيوة ، وقتادة ، وحميد: "مدخل" و "مخرج" بفتح الميم، فهو غير جار على: أدخلني، ولكن التقدير: "أدخلني فأدخل مدخل"، لأنه إنما يجري على دخل، و "الصدق" هنا صفة تقتضي رفع المذام واستيعاب المدح، كما تقول: "رجل صدق" أي: جامع للمحاسن.

وقوله تعالى: واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ، قال مجاهد وغيره: حجة، يريد: تنصرني ببيانها على الكفار، وقال الحسن وقتادة : يريد: منعة ورياسة وسيفا ينصر دين الله تعالى، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بأمر الله إياه به رغبة في نصر الدين، فروي أن الله تعالى وعده بذلك، ثم أنجز له في حياته وتممه بعد وفاته.

[ ص: 531 ] وقوله تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل الآية. قال قتادة : "الحق": القرآن، و"الباطل": الشيطان، وقالت فرقة: "الحق" الإيمان، و"الباطل": الكفر، وقال ابن جريج : الحق: الجهاد، و"الباطل": الشرك، وقيل غير ذلك، والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة، فيكون التعبير: جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه، وزهق الكفر بجميع ما انطوى فيه، و"الباطل": كل ما لا تنال به غاية نافعة. وقوله سبحانه: كان زهوقا ، ليست "كان" إشارة إلى زمن مضى، بل المعنى: كان وهو يكون، وهذا كقولك: كان الله عالما قادرا، ونحو هذا.

وهذه الآية نزلت بمكة ، ثم إن رسول الله كان يستشهد بها يوم فتح مكة ، وقت طعنه الأصنام، وسقوطها لطعنه إياها بمخصرة، حسبما في السيرة لابن هشام وفي غيرها. وقرأ الجمهور: "وننزل" بالنون، وقرأ مجاهد : "وينزل" بالياء خفيفة، ورواها المروزي عن حفص . وقوله تعالى: من القرآن ، يصح أن تكون "من" لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لبيان الجنس، كأنه قال وننزل ما فيه شفاء من "القرآن"، وأنكر بعض المتأولين أن تكون "من" للتبعيض، لأنه تحفظ من أن يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وليس يلزمه هذا، بل يصح أن تكون "من" للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض، فكأنه قال: "وننزل من القرآن" شيئا شيئا ما فيه كله شفاء. واستعارته الشفاء للقرآن هو بحسب إزالته للريب، وكشفه غطاء القلب لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى، المقررة لشرعه. ويحتمل أن يراد بالشفاء نفعه من الأمراض بالرقى [ ص: 532 ] والتعويذ ونحوه، وكونه رحمة ظاهرة. وقوله تعالى: ولا يزيد الظالمين إلا خسارا بمعنى أنه عليهم عمى; إذ هم معرضون بحالة من لا يفهم ولا يلقن.

وقوله تعالى: وإذا أنعمنا على الإنسان الآية. "الإنسان" في هذه الآية لا يراد به العموم، وإنما يراد به بعضه وهم الكفرة، وهذا كما تقول عند غضب: "لا خير في الأصدقاء ولا أمانة في الناس"، فأنت تعمم مبالغة، ومرادك البعض، وهذا بحسب ذكر الظالمين والخسار في الآية، قيل: فاتصل ذكر الكفرة، ويحتمل أن يكون "الإنسان" في هذه الآية عاما للجنس، على معنى: إن هذا الخلق الذميم في سجيته، فالكافر يبالغ في الإعراض، والعاصي يأخذ بحظه منه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤمن: "فأعرض فأعرض الله عنه". ومعنى "أعرض" ولانا عرضه، "ونأى" أي: بعد، وهذه، وهذا استعارة، وذلك أنه يفعل أفعال المعرض النائي في تركه الإيمان بالله وشكر نعمه عليه. وقرأ ابن عامر وحده: "وناء"، ومعناه: نهض متباعدا، هذا قول طائفة، وقال أخرى: هو قلب الهمزة بعد الألف من "نأى" بعينه، وهي لغة كرأى وراء، ونحو هذه اللفظة قول الشاعر في صفة رام:


حتى إذا ما التأمت مفاصله ... وناء في شق الشمال كاهله



[ ص: 533 ] أي: نهض متوركا على شماله.

والذي عندي أن "ناء" و"نأى" فعلان متباينان. وناء بجانبه عبارة عن التحير والاستبداد، و"ناء" عبارة عن البعد والفراق.

ثم وصف الله تعالى الكفرة بأنهم إذا مسهم شر من مرض أو مصيبة في مال أو غير ذلك يئسوا من حيث لا يؤمنون بالله، ولا يرجون تصرف أقداره.

ثم قال عز وجل: قل يا محمد: كل يعمل على شاكلته ، أي: طريقته وبحسب نيته ومذهبه الذي يشبهه. وهو شكل له، وهذه الآية تدل دلالة على أن "الإنسان" أولا لم يرد به العموم، أي أن الكفار بهذه الصفات، والمؤمنون بخلافها، وكل منهم يعمل على ما يليق به، والرب تعالى أعلم بالمهتدي. وقال مجاهد : على شاكلته معناه: على طبيعته، وقال أيضا: معناه: على حدته، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: على ناحيته، وقال قتادة : معناه: على حدته وعلى ما ينوي، وقال ابن زيد : معناه: على دينه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وأرجح هذه العبارات قول ابن عباس وقتادة . وقوله تعالى: فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا توعد بين.

التالي السابق


الخدمات العلمية