الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا

قال لها الملك: كذلك هو كما وصفت، ولكن قال ربك، ويحتمل أن يريد: على هذه الحال قال ربك، والمعنى متقارب، و "الآية": العبرة المعرضة للنظر، والضمير في قوله: "لنجعله" للغلام، ورحمة منا ، أي: طريق هدى لعالم كثير، فينالون الرحمة بذلك. ثم أعلمها بأن الأمر قد قضي وانتجز، و "الأمر" هنا واحد الأمور، وليس بمصدر: أمر يأمر، وروي أن جبريل عليه السلام -حين قاولها هذه المقاولة- نفخ في جيب درعها، فسرت النفخة بإذن الله حتى حملت منها، قاله وهب بن منبه وغيره. وقال ابن جريج : نفخ في جيب درعها وكفها، وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: دخل الروح المنفوخ من فمها، فذلك قوله: فحملته أي: حملت الغلام.

ويذكر أنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة، فلما أحست بذلك وخافت تعنيف الناس وأن يظن بها الشر انتبذت به، أي: تنحت مكانا بعيدا حياء وفرارا على وجهها، وروي في هذا أنها فرت إلى بلاد مصر أو نحوها، قاله وهب بن منبه ، وروي أيضا أنها خرجت إلى موضع يعرف ببيت لحم ، بينه وبين إيلياء أربعة أميال.

و "أجاءها" معناه: فاضطرها، و "أجاء" هو تعدية "جاء" بالهمزة، وقرأ شبل بن عزرة -ورويت عن عاصم -: "فاجأها"، من المفاجأة، وفي مصحف أبي بن كعب : "فلما أجاءها المخاض"، وقال زهير :

[ ص: 19 ]

وجار سار معتمدا إليكم أجاءته المخافة والرجاء

وقرأ الجمهور : "المخاض" بفتح الميم، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه - بكسرها، وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها، روي أنها بلغت إلى موضع كان فيه جذع نخلة بال يابس في أصله مذود بقرة على جرية ماء، فاشتد بها الأمر هنالك، واحتضنت الجذع لشدة الوجع، وولدت عيسى عليه السلام ، فقالت عند ولادتها - لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه-: يا ليتني مت ولم يجر علي هذا القدر.

وقرأ الحسن، وأبو جعفر ، وشيبة ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وجماعة: "مت" بضم الميم، وقرأ الأعرج ، وطلحة ، ويحيى ، والأعمش بكسرها، واختلف عن نافع . وتمنت مريم الموت من جهة الدين; إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها، وتعير فيفتنها ذلك، وعلى هذا الحد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصالحين، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن، وقد أباحه صلى الله عليه وسلم في قوله:

[ ص: 20 ] يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

لأنه زمن فتن بالدين.

وقالت: وكنت نسيا منسيا ، أي: شيئا متروكا محتقرا، والنسي في كلام العرب : الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه، يقال: نسي ونسي بفتح النون وكسرها، وقرأ الجمهور بالكسر، وقرأ حمزة وحده بالفتح، واختلف عن عاصم ، وكقراءة حمزة قرأ طلحة ، والأعمش ، ويحيى ، وقرأ محمد بن كعب القرظي : "نسئا" بالهمز وكسر النون، وقرأ نوف البكالي : "نسئا" بفتح النون، وحكاها أبو الفتح، وأبو عمرو الداني عن محمد بن كعب القرظي ، وقرأ بكر بن حبيب : "نسا" بشد السين وفتح النون دون همز، وقال الشنفرى :


كأن لها في الأرض نسا تقصه     إذا ما غذت وإن تحدثك تبلت

وحكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيى ، فجاءتها أختها زائرة فقالت: يا مريم ، أشعرت أني حملت؟ قالت لها مريم : أشعرت أنت أني حملت؟ قالت لها: وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك، وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم ، قال السدي : فذلك قوله تعالى: مصدقا بكلمة من الله .

[ ص: 21 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وفي هذا كله ضعف، فتأمله. وكذلك ذكر الطبري من قصصها أنها خرجت فارة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار كان يخدم معها المسجد، وطول الطبري في ذلك فاختصرته لضعفه، وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملا على عرف البشر، واستحيت من ذلك وفرت بسببه وهي حامل، وهو قول جمهور المتأولين، وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة ، والله أعلم.

وظاهر قوله تعالى: فأجاءها المخاض يقتضي أنها كانت على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر; ولذلك لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصية عيسى عليه السلام ، وقيل: ولدته لسبعة أشهر، وقيل: لستة أشهر.

التالي السابق


الخدمات العلمية