الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 351 ] قال ( ومن قال مالي في المساكين صدقة فهو على ما فيه الزكاة ، وإن أوصى بثلث ماله فهو على كل شيء ) والقياس أن يلزمه التصدق بالكل ، وبه قال زفر رحمه الله لعموم اسم المال كما في الوصية . [ ص: 352 ] وجه الاستحسان أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى فينصرف إيجابه إلى ما أوجب الشارع فيه الصدقة من المال .

أما الوصية فأخت الميراث لأنها خلافة كهي فلا يختص مال دون مال ، ولأن الظاهر التزام الصدقة من فاضل ماله وهو مال الزكاة ، أما الوصية تقع في حال الاستغناء فينصرف إلى الكل وتدخل فيه الأرض العشرية عند أبي يوسف رحمه الله لأنها سبب الصدقة ، إذ جهة الصدقة في العشرية راجحة عنده ، وعند محمد رحمه الله لا تدخل لأنها سبب [ ص: 353 ] المؤنة ، إذ جهة المؤنة راجحة عنده ، ولا تدخل أرض الخراج بالإجماع لأنه يتمحض مؤنة .

ولو قال ما أملكه صدقة في المساكين فقد قيل يتناول كل مال لأنه أعم من لفظ المال . والمقيد إيجاب الشرع وهو مختص بلفظ المال فلا مخصص في لفظ الملك فبقي على العموم ، والصحيح أنهما سواء لأن الملتزم باللفظين الفاضل عن الحاجة على ما مر ، [ ص: 354 ] ( ثم إذا لم يكن له مال سوى ما دخل تحت الإيجاب يمسك من ذلك قوته ، ثم إذا أصاب شيئا تصدق بمثل ما أمسك ) لأن حاجته هذه مقدمة ولم يقدر محمد بشيء لاختلاف أحوال الناس فيه .

وقيل المحترف يمسك قوته ليوم وصاحب الغلة لشهر وصاحب الضياع لسنة على حسب التفاوت في مدة وصولهم إلى المال ، وعلى هذا صاحب التجارة يمسك بقدر ما يرجع إليه ماله .

التالي السابق


( قوله ومن قال مالي في المساكين صدقة فهو على ما فيه الزكاة ) فيلزمه التصدق بجميع ما يملكه من النقدين والسوائم وأموال التجارة ويمسك قوته ، فإذا أصاب شيئا تصدق بقدر ما أمسك ، وإذا وجب التصدق بكله فلا فرق بين أن يبلغ ما عنده نصابا أو لا ، لأن المعتبر جنس ما فيه الزكاة دون قدره ، ولذا قالوا نذر أن يتصدق بماله وعليه دين محيط بكل ماله لزمه أن يتصدق به ، فإن قضى به دينا لزمه أن يتصدق بما يكتسبه بعد إلى أن يوفى ( ولو أوصى بثلث ماله فهو على كل مال ، والقياس أن يلزمه التصدق بالكل ) فيهما ( وبه قال زفر ) والبتي والنخعي والشافعي .

وقال مالك وأحمد : يتصدق بثلث ماله { لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة حين قال : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة : يجزئك الثلث } ( لعموم اسم المال كالوصية ) وقال [ ص: 352 ] عليه الصلاة والسلام { من نذر أن يطيع الله فليطعه } ( وجه الاستحسان أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى فينصرف إلى ما أوجب الشرع فيه الصدقة ) وما أوجب به التصدق ذكره بلفظ العموم وعلق الإيجاب ببعضه .

قال تعالى { خذ من أموالهم صدقة } ولم يعم كل مال ، وهذا بناء على أن مقتضى اللفظ إنما يصدق بالأخذ من كل مال ، وذكرنا في الأصول أن بالأخذ من جنس الأموال يصدق بأنه أخذ من أموالهم حقيقة ، وإنما ذاك قول الشافعي ، والأحسن أن حمله على العموم مخالف للشرع إذ منع منه قوله تعالى { ولا تبسطها كل البسط } فوجب تقييدها ببعضها ، ثم عينا ذلك البعض بتعيين الله تعالى إياها بإيجاب التصدق منها . وأما قوله عليه الصلاة والسلام { من نذر أن يطيع الله فليطعه } لا ينافيه لأن إخراج ما ذكرنا من أجناس المال طاعة ، وإنما يلزم لو تقيد بجميع ما تلفظ به وهو منتف بلزوم المعصية .

وحديث أبي لبابة ليس فيه تصريح بأنه نذر ذلك فهو على أنه نوى ذلك وقصده . وأما الوصية فجرينا فيها على نحو ذلك أيضا فقلنا : لو أوصى بجميع ماله وله ورثة لا ينفذ لأن في تنفيذه ارتكاب المعصية فيقتصر على الثلث المفسوخ له فيه مع وجود الورثة .

وأما نفاذه في الكل إذا لم يكن له ورثة فلأنها إنما توجب ذلك في حال استغنائه بالموت فانتفى المانع الشرعي ، وهذا لأن النهي ما كان في حالة الحياة إلا لقيام حاجته الناجزة في الحياة وعدم البداءة بنفسه المأمور بها في قوله صلى الله عليه وسلم { ابدأ بنفسك ثم بمن تعول } فيؤدي إلى ضيق نفسه وحرجها وهو قد يكون سبب المعصية ، وهذا المعنى منتف بعد الموت .

وقول المصنف ( ولأن الظاهر أنه إنما يلتزم الصدقة إلخ ) يصلح تقريرا لإبداء المخصص يعني أن العموم وإن كان ثابتا لكن هنا معنى يخصصه [ ص: 353 ] وهو أن الظاهر من إرسال لفظ عام بالخروج عن كل ماله مع قيام حاجته المستمرة لنفسه وعياله عدم كونه على وجه يدخل الضرر عليه وعليهم ، فكان ظاهرا في إرادة الخصوص ، وما ذكرناه من لزوم المعصية بتقدير اعتبار عموم هو أيضا من إبداء المخصص ، وهذا من أفراد ترك الحقيقة بدلالة .

وهل تدخل الأرض العشرية فيجب التصدق بها عند أبي يوسف نعم لأن جهة الصدقة غالبة في العشر .

وروي ذلك عن أبي حنيفة وعند محمد لا ، لأن جهة المؤنة غالبة عنده ، ولا تدخل الخراجية اتفاقا لتمحض الخراج مؤنة ولذا وجب في أرض الصبي والوقف ( ولو ) كان ( قال ما أملك صدقة قيل يجب الكل ) لأن المقيد في الشرع المذكور بلفظ المال .

قال المصنف ( والصحيح أنهما سواء لأن الملتزم باللفظين الفاضل عن الحاجة ) وهذا يؤذنك بقصدهم إلى التخصيص بذلك المعنى بقليل تأمل ، وكان مقتضى ما ذكر في اللفظين أن يثبت مثله في قوله لله علي أن أهدي جميع مالي أو جميع ملكي ، إلا أن الطحاوي ذكر أنه يجب الكل ، بخلاف ما لو حلف به فقال إن فعلت كذا فلله علي أن أهدي جميع مالي حيث يجب الكل بلا إشكال لأن عقد اليمين لمنع النفس عن المذكور بالتزام ما يكرهه على تقديره فانفتح باب إرادة العموم ، إلا أن هذا على جعل المخصص المعنى الذي عينه المصنف ، وأما على جعله لزوم المعصية فيجب أن يخص أيضا فكان تعويلهم ليس عليه ، وقوله ( على ما مر ) يريد وجه الاستحسان هذا . [ ص: 354 ] ثم إذا لم يكن له مال إلا ما دخل تحت الإيجاب ) يعني مال الزكاة على بعد ذلك ( يمسك منه قوته ) ويتصدق بما سواه ( وإذا استفاد شيئا تصدق بقدر ما أمسك ولم يقدر محمد ) مقدارا في أصل المبسوط ( لاختلاف أحوال الناس ) من قلة العيال أو كثرتهم والرخاء والغلاء فيختلف الاعتبار ( وقيل المحترف يمسك ليوم ) لأنه يكتسب يوما فيوما ( وصاحب الغلة ) وهو من له حوانيت أو دور يجبيها يمسك ( شهرا ) لأن يده تصل إلى نفقته بعد شهر ( وصاحب الضياع لسنة ) لأن غلتها كذلك ، وأما في عرف ديارنا فبعضهم كذلك وبعضهم يؤجرها بدراهم على ثلاثة أقساط كل أربعة أشهر قسط فينبغي أن يمسك إلى تمام أربعة أشهر ( وعلى هذا فصاحب التجارة يمسك بقدر ما يرجع إليه ماله ) .




الخدمات العلمية