الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1448 117 - حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، قال: حدثنا خالد، قال: أخبرنا حبيب بن أبي عمرة، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد، قال: لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله): وهم خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: عبد الرحمن بن المبارك بن عبد الله العيشي، بفتح العين المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وبالشين المعجمة.

                                                                                                                                                                                  الثاني: خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الطحان.

                                                                                                                                                                                  الثالث: حبيب بن أبي عمرة -بفتح العين المهملة، وسكون الميم، وفتح الراء، وفي آخرها هاء - القصاب.

                                                                                                                                                                                  الرابع: عائشة بنت طلحة بن [ ص: 134 ] عبيد الله التميمية القرشية، وكانت من أجمل نساء قريش، أصدقها مصعب بن الزبير ألف ألف درهم.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أم المؤمنين عائشة الصديقة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده):

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين.

                                                                                                                                                                                  وفيه الإخبار كذلك في موضع.

                                                                                                                                                                                  وفيه العنعنة في موضعين.

                                                                                                                                                                                  وفيه القول في موضع واحد.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن شيخه من أفراده، وأنه ليس أخا لعبد الله بن المبارك الفقيه المشهور، فإنه مروزي، وشيخ البخاري بصري من بني عيش.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن خالدا واسطي، وأن حبيبا كوفي، وأن عائشة بنت طلحة مدنية.

                                                                                                                                                                                  وفيه رواية التابعية عن الصحابية.

                                                                                                                                                                                  وفيه روايتها عن خالتها، فإن عائشة الصديقة خالة عائشة بنت طلحة; لأن أمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره):

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن مسدد، عن خالد بن عبد الله، وفي الحج أيضا عن مسدد، عن عبد الواحد بن زياد، وفي الجهاد أيضا عن قبيصة، عن سفيان.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي في الحج عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن حبيب بن أبي عمرة نحوه.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه ابن ماجه رضي الله تعالى عنه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: (أفلا نجاهد) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار.

                                                                                                                                                                                  قوله: (قال لا) أي: لا تجاهدن.

                                                                                                                                                                                  قوله: (لكن) في رواية الأكثرين بضم الكاف، والنون لجماعة النساء خطابا لهن. وقال القابسي: هذا هو الذي تميل إليه نفسي. وفي رواية الحموي (لكن) بكسر الكاف وزيادة الألف قبلها بلفظ الاستدراك.

                                                                                                                                                                                  (قلت): فعلى هذه الرواية اسم لكن هو قوله: (أفضل الجهاد) بالنصب، وخبرها هو قوله: (حج مبرور)، والمستدرك منه يستفاد من السياق، تقديره: ليس لكن الجهاد، ولكن أفضل الجهاد في حقكن حج مبرور، وعلى الرواية الأولى (أفضل الجهاد) مرفوع على الابتداء، وخبره هو قوله: (لكن) تقديره: أفضل الجهاد لكن حج مبرور.

                                                                                                                                                                                  وفي لفظ النسائي: (ألا نخرج، فنجاهد معك، فإني لا أرى عملا في القرآن العظيم أفضل من الجهاد؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت حج مبرور). وفي رواية ابن ماجه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (قلت يا رسول الله: هل على النساء جهاد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة). وعنده أيضا عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها، قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (الحج جهاد كل ضعيف) وفي رواية النسائي رحمه الله تعالى بسند لا بأس به عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ( جهاد الكبير، والصغير، والضعيف، والمرأة الحج والعمرة ).

                                                                                                                                                                                  وإنما قيل للحج جهاد; لأنه يجاهد في نفسه بالكف عن شهواتها، والشيطان، ودفع المشركين عن البيت باجتماع المسلمين إليه من كل ناحية.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه):

                                                                                                                                                                                  قال المهلب: في هذا وفي إذن عمر رضي الله تعالى عنه لهن بالحج إبطال إفك المشغبين، وكذب الرافضة فيما اختلقوه من الكذب من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: "هذه، ثم ظهور الحصر" وهذا ظاهر الاختلاق; لأنه حضهن على الحج، وبشرهن أنه أفضل جهادهن.

                                                                                                                                                                                  وإذن عمر لهن، وسير عثمان معهن حجة قاطعة على ما كذب به على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في أمر أم المؤمنين، وكذا قولهم عنه إنه قال لها: تقاتلي عليا، وأنت له ظالمة فإنه لا يصح. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وإذن عمر لهن، وسير عثمان معهن) أراد به الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله تعالى في باب حج النساء في أواخر كتاب الحج، قال: قال لي أحمد بن محمد: (حدثنا إبراهيم، عن أبيه، عن جده أذن عمر رضي الله تعالى عنه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهم.

                                                                                                                                                                                  (قلت): إنكار المهلب قوله صلى الله عليه وسلم: "هذه، ثم ظهور الحصر" لا وجه له، فإن أبا داود رواه في (سننه) وقال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبي واقد الليثي، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه في حجة الوداع: "هذه، ثم ظهور الحصر" قال ابن الأثير: وفي الحديث (أفضل الجهاد وأجمله حج مبرور، ثم لزوم الحصر) وفي رواية أنه قال لأزواجه: (هذه، ثم لزوم الحصر) أي: إنكن لا تعدن تخرجن من بيوتكن، وتلزمن الحصر، هي جمع الحصير الذي يبسط في البيت، وتضم الصاد، وتسكن تخفيفا.

                                                                                                                                                                                  وأما حديث تقاتلي عليا، وأنت له ظالمة فليس بمعروف، والمعروف أن [ ص: 135 ] هذا قاله للزبير بن العوام. والله أعلم. وسند حديثه ضعيف.

                                                                                                                                                                                  وقال المهلب أيضا: قوله: (لكن أفضل الجهاد حج مبرور) تفسير قوله: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن الآية، ليس على الفرض لملازمة البيوت كما زعم من أراد تنقيص أم المؤمنين في خروجها إلى العراق للإصلاح بين المسلمين، وهذا الحديث يخرج الآية عما تأولوها; لأنه قال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" فدل أن لهن جهادا غير الحج، والحج أفضل منه.

                                                                                                                                                                                  (فإن قيل): النساء لا يحل لهن الجهاد (قيل) له: قالت حفصة رضي الله تعالى عنها: قدمت علينا امرأة غزت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات، وقالت: كنا نداوي الكلمى، ونقوم على المرضى. وفي (الصحيح) وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الغزو أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها غزا بها.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال: وإنما جعل الجهاد في حديث أبي هريرة أفضل من الحج; لأن ذلك كان في أول الإسلام وقلته، وكان الجهاد فرضا متعينا على كل أحد، فأما إذا ظهر الإسلام، وفشا، وصار الجهاد من فروض الكفاية على من قام به، فالحج حينئذ أفضل، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة (أفضل جهادكن الحج) لما لم تكن من أهل الغناء والجهاد للمشركين، فإن حل العدو ببلدة، واحتيج إلى دفعه، وكان له ظهور وقوة، وخيف منه - فرض الجهاد على الأعيان، وكان أفضل من الحج.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية