الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الرابع والعشرون من القوادح ( القلب ) وهو ( تعليق نقيض الحكم أو لازمه ) أي لازم نقيض الحكم ( على العلة ) التي يبديها المستدل ليثبت عليها ذلك الحكم ( إلحاقا بالأصل ) المقيس عليه . ويسمى هذا الضرب : قلب العلة . والضرب الثاني : يسمى قلب الدليل . وسيأتي .

فقلب العلة : بأن يبين المعترض أن ما ذكره المستدل من الدليل يدل عليه لا له ( فهو نوع معارضة ) عند أصحابنا ، وحكي عن الأكثر ، وقيل : إفساد ، وقيل : تسليم للصحة ( ثم ) هو أنواع . نوع ( منه قلب لتصحيح مذهبه ) أي مذهب المعترض ( مع إبطال مذهب [ ص: 570 ] المستدل صريحا ، ك ) قوله في ( بيع فضولي : عقد في حق الغير بلا ولاية ، فلا يصح كالشراء ) له . فيقول المعترض : تصرف في مال الغير ، فيصح كالشراء للغير . فإنه يصح للمشتري ، وإن لم يصح لمن اشترى له . ونوع منه يكون قلبا لتصحيح مذهبه مع إبطال مذهب المستدل من غير تصريح بإبطاله . وهو ما أشير إليه بقوله ( أو غيره ، ك ) قول الحنفي في الصوم في الاعتكاف ( الاعتكاف لبث محض ) في محل مخصوص . ( فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة ) وغرضه التعرض لاشتراط الصوم فيه ، ولكن لم يتمكن من التصريح به ; لأنه لا أصل له يقيسه عليه ( فيقال ) أي فيقول الحنبلي أو الشافعي معترضا : لبث في محل مخصوص ( فلا يعتبر فيه الصوم ، كالوقوف ) بعرفة .

ونوع منه أيضا ، وهو ما أشير إليه بقوله ( وقلب لإبطال مذهب المستدل فقط ) أي من غير تعرض لتصحيح مذهب المعترض ، سواء كان الإبطال ( صريحا ك ) قوله ( الرأس ممسوح ، فلا يجب استيعابه كالخف ) . ( فيقال ) أي فيقول المعترض ( فلا يتقدر ) مسح الرأس ( بالربع كالخف ) ففي هذا الاعتراض نفى مذهب المستدل صريحا ، ولم يثبت مذهبه لاحتمال أن يكون الحق في غير ذلك ، وهو الاستيعاب . كما هو قول أحمد ومالك رضي الله تعالى عنهما ( أو ) كان الإبطال ( لزوما ، ك ) قول الحنفي في ( بيع غائب ) مجهول ( عقد معاوضة ، فيصح مع جهل المعوض كالنكاح ) ( فيقال ) أي فيقول المعترض : إن كان الأمر كما ذكرت ( فلا يعتبر فيه خيار الرؤية كالنكاح ) فثبوت خيار الرؤية لازم لصحة بيع الغائب عندهم ، وحيث كان الأمر كذلك ( فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم . و ) من أنواع القلب ( قلب المساواة ) خلافا للباقلاني والسمعاني ( ك ) قول المستدل ( الخل مائع طاهر مزيل ) أي للخبث ( كالماء ) . ( فيقال ) أي فيقول له المعترض : حيث كان كالماء ف ( يستوي فيه الحدث والخبث كالماء ) ومن ذلك قياس الحنفية طلاق المكره على طلاق المختار . فيقال لهم : فيجب استواء حكم إيقاعه وإقراره . كالمختار ( ومنه ) أي ومن القلب نوع آخر ، وهو ( جعل معلول علة وعكسه ) وهو جعل علة معلولا .

قال في التمهيد : القلب ثلاثة أنواع . الأول : الحكم بحكم مقصود غير حكم المعلل . والثاني : قلب [ ص: 571 ] التسوية ، والثالث : يصح أن يجعل المعلول علة ، والعلة معلولا ( ولا يفسدها ) يعني أن جعل المعلول علة والعلة معلولا لا يفسد العلة ، بمعنى أنه لا يمنع الاحتجاج بها ، وذلك ( ك ) قول أصحابنا في ظهار الذمي ( من صح طلاقه صح ظهاره ) كالمسلم ( وعكسه ) أي ، ومن صح ظهاره صح طلاقه ( فالسابق ) منهما ( علة للتالي ) فيقول الحنفي : أجعل المعلول علة ، والعلة معلولا . وأقول : المسلم إنما صح طلاقه ; لأنه صح ظهاره . ومتى كان الظهار علة للطلاق لم يثبت ظهار الذمي بثبوت طلاقه .

وقال الحنفية وبعض المتكلمين : إن جعل المعلول علة وعكسه : مفسد للعلة . واستدل لعدم الإفساد : بأن علل الشرع أمارات على الأحكام بجعل جاعل ونصب ناصب ، وهو صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام ، وغير ممتنع أن يقول صاحب الشرع : من صح طلاقه فاعلموا أنه يصح ظهاره ومن صح ظهاره فاعلموا أنه يصح طلاقه ، فأيهما ثبت عنه صحة أحدهما حكمنا بصحة الآخر منه . واحتج المخالف بأن جعل كل منهما علة للآخر : يلزم منه أن يتوقف كل منهما على الآخر .

وأجيب بأن ذلك في العلة العقلية دون الشرعية ; لجواز ثبوت الحكم الشرعي بعلل متعددة ( وزيد ) أي وزاد بعضهم في صورة القلب ( قلب الدعوى ، مع إضمار الدليل فيها ) أي في الدعوى ( ككل موجود مرئي ) ، ( فيقال : كل ما ليس في جهة ليس مرئيا ، وكونه لا في جهة دليل منعها ) ، ( أو مع عدمه ) أي عدم إضمار الدليل ( كشكر المنعم واجب لذاته فيقلبه ) قال ابن مفلح : أما قلب الدعوى مع إضمار الدليل فيها ، فمثل " كل موجود مرئي " . فيقال : كل ما ليس في جهة ليس مرئيا فدليل الرؤية الوجود ، وكونه لا في جهة دليل منعها ومع عدم إضماره ، مثل : شكر المنعم واجب لذاته فيقلبه . فيقال : شكر المنعم ليس بواجب لذاته . انتهى .

( و ) زيد أيضا ( قلب الاستبعاد كالإلحاق ) أي إلحاق الولد في النسب ، ومن صور ذلك : لو ادعى اللقيط اثنان فأكثر بلا بينة ، ولم توجد قافة . وقلنا : إنه يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء ممن ادعاه فيعترض بأن يقال ( تحكيم الولد فيه ) أي في النسب ( تحكم بلا دليل ) . ( فيقال ) جوابا لذلك ( تحكيم القائف ) أيضا ( تحكم بلا دليل ) .

والضرب الثاني : من القلب هو ( قلب الدليل على وجه يكون ما ذكره المستدل يدل عليه لا له ) [ ص: 572 ] وقل أن يتفق لهذا مثال في الأقيسة ، وأما مثاله من المنصوص ف ( ك ) قول المستدل لتوريث ذوي الأرحام في توريث الخال بقوله صلى الله عليه وسلم ( { الخال وارث من لا وارث له } فيقال ) أي فيقول المعترض : هذا الدليل يدل عليك لا لك . فإنه ( يدل على أنه لا يرث بطريق أبلغ ; لأنه نفي عام ، ك ) ما يقال ( الجوع زاد من لا زاد له ) والصبر حيلة من لا حيلة له ، وليس الجوع زادا ، ولا الصبر حيلة . قال ابن حمدان وغيره : وقوله { وارث من لا وارث له } ينفي إرثه فإن أراد نفي كل وارث سوى الخال : بطل بإرث الزوج والزوجة ، وإن أراد نفي كل وارث عصبة : فلا فائدة في تخصيص الخال بالذكر ، دون بقية ذوي الأرحام ويشبه فساد الوضع . انتهى . قال ابن مفلح : وليس بمثال جيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية