الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              1712 (باب فضل إخفاء الصدقة)

                                                                                                                              ومثله في النووي .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 120 - 122 ج7 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ بعبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، [ ص: 573 ] اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه. . "]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي هريرة ) رضي الله عنه (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) .

                                                                                                                              قال عياض : إضافة الظل إلى الله، إضافة ملك. وكل ظل فهو لله.

                                                                                                                              وملكه وخلقه وسلطانه.

                                                                                                                              والمراد هنا: ظل العرش. كما جاء في حديث آخر مبينا.

                                                                                                                              والمراد: يوم القيامة، إذا قام الناس لرب العالمين، ودنت منهم الشمس، واشتد عليهم حرها، وأخذهم العرق.

                                                                                                                              ولا ظل هناك لشيء، إلا للعرش.

                                                                                                                              وقد يراد به هنا: "ظل الجنة". وهو نعيمها والكون فيها، كما قال تعالى: وندخلهم ظلا ظليلا .

                                                                                                                              قال ابن دينار: المراد بالظل هنا: الكرامة، والكنف، والكف من المكاره في ذلك الموقف.

                                                                                                                              [ ص: 574 ] قال: وليس المراد ظل الشمس.

                                                                                                                              قال عياض : وما قاله معلوم في اللسان. يقال: " فلان في ظل فلان ".

                                                                                                                              أي: في كنفه وحمايته. قال: وهذا أولى الأقوال.

                                                                                                                              وتكون إضافته إلى العرش؛ لأنه مكان التقريب والكرامة. وإلا فالشمس، وسائر العالم، تحت العرش في ظله. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: هذا تأويل وصرف للفظ عن ظاهره. ولا حاجة تدعو إليه.

                                                                                                                              وقد ورد الحديث بإثبات الظل لله تعالى. كما ورد بإثباته للعرش.

                                                                                                                              فينبغي أن يؤمن به ولا يكيف، ولا يؤول، ولا يعطل، ولا يشبه.

                                                                                                                              وإلى هذا ذهب الجمهور من السلف، وعليه درجوا. وهو المختار والصحيح الذي لا غبار عليه، ولا شنار فيه. والله أعلم.

                                                                                                                              (الإمام العادل) . قال عياض : هو كل من إليه نظر، في شيء من مصالح المؤمنين، من الولاة والحكام.

                                                                                                                              وبدأ به لكثرة مصالحه، وعموم نفعه.

                                                                                                                              وفي بعض النسخ: (الإمام العدل) . وهما صحيحان.

                                                                                                                              (وشاب نشأ بعبادة الله) . هكذا في جميع النسخ. والمشهور في روايات هذا الحديث: "في عبادة الله ". وكلاهما صحيح.

                                                                                                                              ومعنى الأول: نشأ متلبسا للعبادة، أو مصاحبا لها، أو ملتصقا بها.

                                                                                                                              [ ص: 575 ] (ورجل قلبه معلق في المساجد) . هكذا هو في النسخ كلها. وفي غير هذه الرواية: " بالمساجد ".

                                                                                                                              وفي بعضها: " متعلق " بالتاء. وكلاهما صحيح.

                                                                                                                              ومعناه: شديد الحب لها، والملازمة للجماعة فيها. وليس معناه: دوام القعود في المسجد.

                                                                                                                              (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه) . أي: على حب الله. (وتفرقا عليه) . أي: على حب الله.

                                                                                                                              يعني: كان سبب اجتماعهما حب الله، واستمر على ذلك حتى تفرقا من مجلسهما، وهما صادقان في حب كل واحد منهما صاحبه، لله تعالى، حال اجتماعهما وافتراقهما.

                                                                                                                              وفيه: الحث على التحابب في الله، وبيان عظم فضله، وهو من المهمات، فإن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان.

                                                                                                                              قال النووي : وهو بحمد الله كثير، يوفق له أكثر الناس أو من وفق له. انتهى.

                                                                                                                              قلت: ولعل هذا كان في زمنه رحمه الله تعالى، وإلا فهو اليوم قليل لا يوفق له إلا الشاذ الفاذ من الناس.

                                                                                                                              اللهم وفقني لهذا الحب واجعلني من أهله، بجاه عريض الجاه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

                                                                                                                              [ ص: 576 ] (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله) .

                                                                                                                              قال عياض : يحتمل باللسان. ويحتمل في قلبه ليزجر نفسه.

                                                                                                                              وخص ذات المنصب والجمال؛ لكثرة الرغبة فيها، وعسير حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال.

                                                                                                                              لاسيما وهي داعية إلى نفسها طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاق التوصل إلى مراودة ونحوها.

                                                                                                                              فالصبر عنها لخوف الله تعالى، وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال، من أكمل المراتب وأعظم الطاعات.

                                                                                                                              فرتب الله عليه أن يظله في ظله.

                                                                                                                              (وذات المنصب) هي ذات الحسب والنسب الشريف.

                                                                                                                              ومعنى " دعته"، أي: دعته للزنا بها.

                                                                                                                              قال النووي : هذا هو الصواب في معناه.

                                                                                                                              وذكر القاضي فيه احتمالين، أصحهما هذا.

                                                                                                                              والثاني: دعته لنكاحها، فخاف العجز عن القيام بحقها. أو أن الخوف من الله شغله عن لذات الدنيا وشهواتها. انتهى.

                                                                                                                              قلت: ويؤيد الاحتمال الأول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر صحيح:

                                                                                                                              [ ص: 577 ] "المرأة تنكح لأربع: لمالها، وجمالها. ولحسبها. ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك"

                                                                                                                              فتعين أن المراد بهذه الدعوة: دعوتها إلى الزنا بها.

                                                                                                                              وقد رأيت بعضهم خاف الله في مثل هذا المقام. وقد قال سبحانه:

                                                                                                                              وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى

                                                                                                                              اللهم اجعلنا من أهل هذه الآية. فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة.

                                                                                                                              (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها) . هذا موضع الترجمة من الباب.

                                                                                                                              وهو صريح واضح فيها لا يخفى.

                                                                                                                              (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) . هكذا وقع في جميع نسخ مسلم.

                                                                                                                              قال النووي : في بلادنا وغيرها، وكذا نقله عياض عن جميع روايات نسخ مسلم.

                                                                                                                              والصحيح المعروف: "حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". هكذا رواه مالك في الموطأ. والبخاري في صحيحه. وغيرهما من الأئمة.

                                                                                                                              وهو وجه الكلام؛ لأن المعروف في النفقة: فعلها باليمين.

                                                                                                                              قال عياض : ويشبه أن يكون الوهم فيها من الناقلين عن مسلم، لا من مسلم. بدليل إدخاله بعده حديث مالك. وقال: بمثل حديث عبيد الله.

                                                                                                                              [ ص: 578 ] وبين الخلاف في قوله: (وقال: ورجل معلق بالمسجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه) .

                                                                                                                              فلو كان ما رواه مخالفا لرواية مالك، لنبه عليه كما نبه على هذا.

                                                                                                                              وفي هذا الحديث: فضل صدقة السر.

                                                                                                                              قال العلماء: وهذا في صدقة التطوع، فالسر فيها أفضل؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص. وأبعد من الرياء.

                                                                                                                              وأما الزكاة الواجبة، فإعلانها أفضل.

                                                                                                                              وهكذا حكم الصلاة. فإعلان فرائضها أفضل. وإسرار نوافلها أفضل.

                                                                                                                              لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل الصلاة: صلاة المرء في بيته. إلا المكتوبة".

                                                                                                                              قال أهل العلم: وذكر " اليمين والشمال "، مبالغة في الإخفاء والاستتار بالصدقة.

                                                                                                                              وضرب المثل بهما، لقرب اليمين من الشمال وملازمتها لها.

                                                                                                                              [ ص: 579 ] ومعناه: لو قدرت الشمال رجلا متيقظا، لما علم صدقة اليمين، لمبالغته في الإخفاء.

                                                                                                                              ونقل عياض عن بعضهم: أن المراد: من عن يمينه وشماله، من الناس.

                                                                                                                              والصواب الأول.

                                                                                                                              (ورجل ذكر الله خاليا، ففاضت عيناه) .

                                                                                                                              فيه: فضيلة البكاء من خشية الله تعالى.

                                                                                                                              وفضل طاعة السر، لكمال الإخلاص فيها.

                                                                                                                              ولهذا الحديث: شرح، وألفاظ، وروايات، وزيادات، جمعتها في كتابي: (دليل الطالب) . فراجعها.




                                                                                                                              الخدمات العلمية