الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثاني المكان فلا تصح في الصحاري والبراري وبين الخيام بل لا بد من بقعة جامعة لأبنية لا تنقل بجمع أربعين ممن تلزمهم الجمعة والقرية فيه كالبلد ولا يشترط فيه حضور السلطان ، ولا إذنه ، ولكن الأحب استئذانه .

التالي السابق


الشرط (الثاني) من شروط الصحة (المكان) ، أي : دار الإقامة (فلا تصح في الصحارى) جمع صحراء (والبوادي) جمع بادية ، وفي بعض النسخ : البراري ، وهو بمعنى الصحارى جمع بر على خلاف القياس ، ولا تصح أيضا (بين الخيام) جمع خيمة ، أو خيم ، بحذف الهاء ، وهي لغة فيه ، كسهم وسهام ، والخيمة بيت تبنيه العرب من عيدان الشجر .

قال ابن الأعرابي : لا تكون الخيمة عند العرب من ثياب ؛ بل من أربعة أعواد تسقف بالثمام ، والجمع خيمات ، وخيم ، وزان حيضات ، وحيض ؛ أي : لا تجب على أهل الخيام النازلين بالصحراء ، وينتقلون في الشتاء ، أو غيره ، فلا تصح جمعتهم ، فإن كانوا لا يفارقونها شتاء ، ولا صيفا ، فالأظهر أنها لا تصح (بل لا بد من بقعة جامعة لأبنية لا تنتقل) ، سواء فيه البناء من حجر ، أو طين ، أو خشب (تجمع أربعين ممن تلزمهم الجمعة) ، ولو انهدمت القرية ، أو البلد فأقام أهلها على العمارة لزمتهم الجمعة فيها ؛ لأنه محل الاستيطان ، ولا يشترط إقامتها في مسجد ، ولا في كن ؛ بل يجوز في فضاء معدود من خطة البلد ، فأما الموضع الخارج عن البلد الذي إذا انتهى إليه الخارج للسفر قصر ، فلا يجوز إقامة الجمعة فيه (والقرية فيه كالبلد) ، وكذلك الأسراب التي تتخذ وطنا حكمها حكم البلد ، والقرية لغة الضيعة ، وفي كفاية المتحفظ القرية كل مكان اتصلت به الأبنية ، واتخذ قرارا ، ويقع على المدن ، وغيرها ، والجمع قرى على غير قياس ، والنسبة إليها قروي على غير قياس أيضا ، وأما البلد فهو المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه ، وإقامتهم فيه ، وتسمى المقبرة بلدا لكونها موطنا للأموات ، والمفازة لكونها موطن الوحش ، وهذا الذي ذكره هو مذهب مالك ، وأحمد ، وعند أصحابنا لا تجب على أهل القرى ؛ لما روى البيهقي في المعرفة ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، عن علي قال : لا جمعة ، ولا تشريق ، ولا صلاة فطر ، ولا أضحى إلا في مصر جامع ، أو مدينة ، ولأنه كان لمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرى كثيرة ، ولم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بإقامة الجمعة فيها ، ويلحق عندنا بالمصر فناؤه ؛ لأنه بمنزلته ، وعليه خرج صاحب المنتقى ، عن أبي يوسف : لو خرج الإمام عن المصر مع أهله لحاجة مقدار ميلين ، فحضرت الجمعة جاز أن يصلي بهم الجمعة ، وعليه الفتوى ؛ لأن فناء المصر بمنزلة المصر فيما كان من حوائج أهله ، وأداء الجمعة من حوائجهم ، واختلف عندنا في تحديد المصر ، فقيل : هو ما لا يسع أكبر مساجده أهله ، روي ذلك عن أبي يوسف ، وفي رواية عنه كل موضع له أمير ، وقاض ينفذ الأحكام ، ويقيم الحدود ، وعن أبي حنيفة كل بلدة لها سكك ، وأسواق ، ووال لدفع المظالم ، وعالم يرجع إليه في الحوادث ، واختار الثلجي الأول ، والمراد بالفناء ما اتصل به ، وهو معد لمصالحهم من ركض خيلهم ، ورميهم بالسهام ، ودفن موتاهم ، وقرره شمس الأئمة بغلوة ، وبعضهم بفرسخين ، وبعضهم بميلين ، وفي الخانية :

[ ص: 220 ] لا بد أن يكون الفناء متصلا بالمصر حتى لو كان بينه وبين المصر فرجة من المزارع ، والمراعي لا يكون فناء . نقله الشمني في شرح النقاية ، وذكر صاحب التصريح أنه لا يشترط اتصال الفناء بالمصر لصحة الجمعة ، والعيد (ولا يشترط فيه حضور السلطان ، ولا إذنه ، ولكن الأحب استئذانه) ، وحكى العمراني في البيان قولا قديما أنها لا تصح إلا خلف الإمام ، أو من أذن له . قال النووي : وهو شاذ منكر . أهـ .

وعند أصحابنا من شروط الصحة أن يصلي السلطان إماما فيها ، أو نائبه ممن أمره بإقامتها ، لما ورد من تركها استخفافا بها ، وله إمام عادل ، أو جائر ، فلا جمع الله شمله . رواه ابن ماجه ، فقد اشترط - عليه السلام - السلطان لإلحاق الوعيد بتاركها ، وقال الحسن : أربع إلى السلطان ، وذكر منها الجمعة ، ومثله لا يعرف إلا سماعا ، فيحمل عليه ، وعلى هذا كان السلف من الصحابة ، ومن بعدهم ، حتى أن عليا - رضي الله عنه - إنما جمع أيام محاصرة عثمان بإذنه . واشتراط حضور السلطان للتحرز عن تفويتها على الناس بقطع الأطماع في التقدم ، وإذا أذن السلطان لأحد بإقامتها ملك الاستخلاف ، وإن لم يفوض إليه صريحا ، فإذا مرض الخطيب ، أو حصل له مانع فاستناب خطيبا آخر مكانه جاز ، ويجوز لصاحب الوظيفة في الخطابة أن يصلي خلف نائبه بغير عذر ، كما جاز للسلطان خلف مأموره بإقامة الجمعة مع قدرة السلطان على الخطبة بنفسه ؛ لأن المدار على تسكين الفتنة ، واختصاص السلطان بإقامتها لذلك ، فالمأمور بها مع نائبه حكمه حكم السلطان مع نائبه ، فله إقامتها بنفسه ، وبنائبه بعذر ، وبغير عذر حال حضرته ، وحال غيبته ، وخالف في هذه المسألة من متأخري علمائنا ابن خسرو صاحب الدرر ، وابن الكمال صاحب إصلاح الإيضاح ، وقد رد عليهما ذلك . والله أعلم .




الخدمات العلمية