الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والأولى أن لا ينصرف حتى يدفن الميت فإذا سوي على الميت قبره قام عليه ، وقال : اللهم عبدك رد إليك ، فارأف به ، وارحمه ، اللهم جاف الأرض عن جنبيه ، وافتح أبواب السماء لروحه ، وتقبله منك بقبول حسن ، اللهم إن كان محسنا فضاعف له في إحسانه ، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه .

التالي السابق


( والأولى أن لا ينصرف المشيع حتى يدفن الميت) اعلم أن الانصراف عن الجنازة أربعة أقسام أحدها ينصرف عقب الصلاة فله من الأجر قيراط. الثاني أن يتبعها حتى توارى، ويرجع قبل إهالة التراب . الثالث أن يقف إلى الفراغ من القبر، وينصرف من غير دعاء . الرابع يقف بعده عند القبر، ويستغفر الله تعالى للميت، وهذا أقصى الدرجات في الفضيلة، وحيازة القيراط الثاني تحصل لصاحب القسم الثالث، وهل تحصل للثاني؟ حكى الإمام فيه ترددا، واختار الحصول .

قال النووي : وحكى صاحب الحاوي هذا التردد وجهين، وقال: أصحهما لا يحصل إلا بالفراغ من دفنه، وهذا هو المختار، ولذا قال المصنف: والأولى إلخ، ويحتج له برواية البخاري : حتى يفرغ من دفنها، ويحتج للآخر برواية لمسلم: حتى توضع في اللحد، والله أعلم .

( فإذا سوى على الميت قبره) بأن فرغ من وضعه في لحده، ونصب اللبن عليه، وسد فرجه [ ص: 457 ] وحثا كل من دنا ثلاث حثيات، ثم يهال عليه التراب بالمساحي، ( قام عليه، وقال: اللهم عبدك) هذا ( رد إليك، فارأف به، وارحمه، اللهم جاف الأرض عن جنبيه، وافتح أبواب السماء لروحه، وتقبله بقبول حسن، اللهم إن كان محسنا فضاعف له في حسناته، وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته) ، وقال في الروضة: ويستحب لمن يدخله القبر أن يقول: بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: اللهم أسلمه إليك الأشحاء من ولده وأهله وقرابته وإخوانه، وفارقه من كان يحب قربه، وخرج من سعة الدنيا والحياة إلى ظلمة القبر وضيقه، ونزل بك وأنت خير منزول به، إن عاقبته فبذنبه، وإن عفوت عنه فأنت أهل العفو، أنت غني عن عذابه، وهو فقير إلى رحمتك، اللهم تقبل حسنته، واغفر سيئته، وأعذه من عذاب القبر، واجمع له برحمتك الأمن من عذابك، واكفه كل هون دون الجنة، اللهم واخلفه في تركته في الغابرين وارفعه في عليين وعد عليه برحمتك يا أرحم الراحمين، وهذا الدعاء نص عليه الشافعي رحمه الله في المختصر .



( فصل) في بيان لواحق هذا الباب

الأولى: تجوز الصلاة على الغائب بالنية، وإن كان في غير جهة القبلة، والمصلي يستقبل القبلة، وسواء كان بينهما مسافة القصر أم لا، فإن كان المصلي والميت في بلد، فهل يجوز أن يصلي، إذا لم يكن بين يديه؟ وجهان؛ أصحهما: لا، قال الشيخ أبو محمد: وإذا شرطنا حضور الميت اشترط أن لا يكون بينهما أكثر من ثلاثمائة ذراع تقريبا، وقال أصحابنا: من شرائط صلاة الجنازة حضور من يصلي عليه، فلا تصح الصلاة على غائب، وأما صلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي، وعلى معاوية المزني، فمن خصوصياته؛ لأنهما أحضرا بين يديه حتى عاينهما، فتكون صلاة من خلفه على ميت يراه الإمام بحضرته دون المأمومين، وهذا غير مانع من صحة الاقتداء، وفي التمهيد لابن عبد البر : أكثر أهل العلم يقولون هذا مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودلائله في هذه المسألة واضحة، لا يجوز أن يشرك النبي صلى الله عليه وسلم فيها غيره؛ لأنه والله أعلم أحضر روح النجاشي بين يديه حتى شاهدها، وصلى عليها، أو رفعت له جنازته، كما كشف له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته، وقد روي أن جبريل أتاه بروح جعفر أو جنازته، وقال: قم فصل عليه، ومثل هذا يدل على أنه مخصوص به، ولا يشاركه فيه غيره، ثم أسند ابن عبد البر عن أبي المهاجر عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه، فقام فصففنا خلفه، فكبر عليه أربعا، وما نحسب الجنازة إلا بين يديه". اهـ، ولو جازت الصلاة على غائب لصلى عليه الصلاة والسلام على من مات من أصحابه، ولصلى المسلمون شرقا وغربا على الخلفاء الأربعة وغيرهم، ولم ينقل ذلك .



الثانية: قال في الروضة: لا تكره الصلاة على الميت في المسجد، قالوا: بل الصلاة فيه أفضل للحديث في قصة سهيل بن البيضاء في صحيح مسلم، وأما الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له" فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها ضعفه، والثاني الموجود في سنن أبي داود فلا شيء عليه هكذا هو في أصول سماعنا مع كثرتها، وفي غيرها من الأصول المعتمدة، والثالث حله على نقصان أجره إذا لم يتبعها للدفن. اهـ .

قلت: قوله: أحدها ضعفه يشير إلى ما ذكره البيهقي عقب إيراده لهذا الحديث ما نصه فيه: صالح مولى التوأمة مختلف في عدالته، كان مالك يجرحه. اهـ، ولكن ذكر صاحب الكمال عن ابن معين أنه قال: صالح ثقة، حجة، قيل: إن مالكا ترك السماع منه، قال: إنما أدركه مالك بعدما كبر وخرف، والثوري : إنما أدركه بعدما خرف، ومن سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت، وقال العجلي: صالح ثقة، وقال ابن عدي : لا بأس به إذا سمعوا منه قديما، مثل ابن أبي ذئب، وابن جريج، وزياد بن سعد، وغيرهم، ولا أعرف له قبل الاختلاط حديثا منكرا إذا روى عنه ثقة، وقال ابن حنبل: ما أعلم بأسا ممن سمع منه قديما، فثبت بهذا إنما تكلم فيه لاختلاطه، وإنه لا اختلاف في عدالته كما ادعى البيهقي، وأن مالكا لم يجرحه، وإنما ترك السماع منه؛ لأنه أدركه بعدما اختلط، ففي الحديث حجة؛ لأنه رواه عنه من سمع منه قبل اختلاطه، وهو ابن أبي ذئب، وقوله في الجواب الثاني: أنه الموجود في أصول السماع فلا شيء عليه، هو خلاف ما نقله [ ص: 458 ] البيهقي في السنن، فإنه اعتمد على الرواية المشهورة؛ ولذا تمهل في إسقاطه بصالح مولى التوأمة، وما خالفه أظنه إصلاحا من أحد الرواة؛ فعند أحمد في مسنده، وفي سنن النسائي هذا الحديث بلفظ فليس له شيء، وهذا لا يحتمل التغيير، وقوله: في الجواب الثالث أنه محمول على نقصان الأجر، إذا لم يتبعها كيف يكون ذلك، وقد أعطي قيراطا من الأجر، كل قيراط مثل جبل أحد كما تقدم، إلا أن يقال أن ناقص الأجر بالنسبة إلى القيراطين، ولكن لفظ الحديث فلا شيء له يدل على عدم الأجر مطلقا، وقال أصحابنا: الصلاة عليه في المسجد مكروه كراهية التحريم في رواية، وكراهية التنزيه في أخرى، أما الذي بني لأجل صلاة الجنازة فلا يكره فيه، وأجاب صاحب المحيط عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء في المسجد بأنه صلى الله عليه وسلم كان معتكفا إذ ذاك فلم يمكنه الخروج من المسجد، فأمر بالجنازة فوضعت خارج المسجد فصلى عليها في المسجد للعذر، وهذا دليل على أن الميت إذا وضع خارج المسجد لعذر والقوم كلهم في المسجد أو الإمام وبعض القوم خارج المسجد، والباقون في المسجد لا يكره، ولو كان من غير عذر اختلف فيه المشايخ بناء على اختلافهم أن الكراهة لأجل التلويث أو كان المسجد بني لأداء المكتوبات لا لصلاة الجنازة، ولما صلت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد، قالت عائشة رضي الله عنها: هل عاب الناس علينا ما فعلنا؟ فقيل لها: نعم، فقالت: ما أسرع ما نسوا ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة سهل بن البيضاء إلا في المسجد، وفيه دليل على أن الناس ما عابوا عليها ذلك وأنكروه، وجعله بعضهم بدعة إلا لاشتهار ذلك عندهم لما فعلوه، ولا يكون ذلك إلا لأصل عندهم؛ لأنه يستحيل عليهم أن يروا رأيهم حجة على حديث عائشة، ويدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما نعى النجاشي إلى الناس خرج بهم إلى المصلى فصلى عليه، ولم يصل عليه في المسجد مع غيبته؛ فالميت الحاضر أولى أن لا يصلى عليه في المسجد، وقد روي الصلاة على أبي بكر في المسجد بسند رجاله ثقات، أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف قال: حدثنا حفص يعني ابن غياث، عن هشام، عن أبيه قال: ما صلى على أبي بكر إلا في المسجد، وهذا يصلح أن يكون حجة للإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو أولى بالاحتجاج مما أخرجه البيهقي في السنن من طريقين ضعيفين: أحدهما إسماعيل الغنوي، وهو متروك، وفي الثانية عبد الله بن الوليد لا يحتج به .

وقال الشيخ الأكبر قدس سره في كتاب الشريعة: أما الصلاة على الجنائز في المقابر ففيه خلاف، وبالجواز أقول في ذلك كله، إلا في الصلاة عليها في المسجد، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره ذلك فكرهته، رأيته صلى الله عليه وسلم في النوم، وقد دخل بجنازة في جامع دمشق فكره ذلك وأمر بإخراجها، فأخرجت إلى باب جيرون، وصلى عليها هناك، وقال: لا يدخلوا الجنازة المسجد .



الثالثة: قال في الروضة: ويستحب أن يلقن الميت بعد الدفن فيقال: يا عبد الله، يا ابن أمة الله، اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا، ورد به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قال النووي : هذا التلقين استحبه جماعات من أصحابنا منهم القاضي حسين وصاحب التتمة، والشيخ نصر المقدسي في كتابه التهذيب وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن الأصحاب مطلقا، والحديث الوارد فيه ضعف، ولكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة كحديث: اسألوا الله له التثبيت، ووصية عمرو بن العاص: أقيموا عند قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي. رواه مسلم في صحيحه، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين من العصر الأول، وفي زمن من يقتدى به، قال الأصحاب: ويقعد الملقن عند رأس القبر، وأما الطفل ونحوه فلا يلقن، والله أعلم .




الخدمات العلمية