الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر : في عصمتهم

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي- رحمه الله تعالى- : اتفق أئمة المسلمين أن حكم المرسلين من الملائكة حكم النبيين ، سواء في العصمة مما ذكرنا عصمتهم منه ، وأنهم في حقوق الأنبياء والتبليغ إليهم كالأنبياء مع الأمم ، واختلفوا في غير المرسلين منهم ، فذهبت طائفة إلى عصمة جميعهم عن المعاصي ، واحتجوا بقوله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم 6] .

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام الرازي - رحمه الله تعالى- هذه الآية تتناول جميع الملائكة في فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات ، لأن كل ما أمر بفعله فقد نهي عن ضده ، والدليل على العموم صحة الاستثناء وبقوله تعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون [الأنبياء 20] ومن هذه صفته لا يتصور منه صدور الذنب ، إذ لو صدر منه الذنب لفتر عن التسبيح ، وللمنع في هذا الوجه والذي قبله مجال واضح لقوله تعالى بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون [الأنبياء 27] وهذا يقتضي توقفهم في كل الأمور على أمر الله تعالى ، ومن كان كذلك لم يصدر منه الذنب ، وقرره الآمدي بأن قال المعصية إما بمخالفة الأمر والنهي ، لا جائز أن يقع مخالفة الأمر ، إذ هو خلاف الآية ، ولا جائز أن يقع لمخالفة النهي ، لأن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده ، ومخالفة النهي إنما تكون بارتكاب المنهي عنه وارتكاب المنهي يقتضي عدم التلبس ، وهذا بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده ، وهي مسألة مشهورة .

                                                                                                                                                                                                                              واحتج الإمام مع من ذكر بوجهين آخرين :

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما : أنهم طعنوا في البشر بالعصمة ، فلو كانوا عصاة لما حسن منهم هذا الطعن ، ولا يخفى ما فيه . [ ص: 493 ]

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنهم رسل الله تعالى بقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا [فاطر 1] والرسول معصوم لقوله تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته وهو بناء على أن الكل رسل ، وقد تقدم الكلام فيه ، وعلى أن قوله تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته من أدلة العصمة غير الأنبياء ولمانع أن يمنع ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي - رحمه الله تعالى- : وذهبت طائفة إلى أن هذا خصوص للمرسلين منهم والمقربين . واحتجوا بأشياء ذكرها أهل الأخبار والتفاسير نحن نذكرها إن شاء الله تعالى بعد ، ونبين الوجه فيها إن شاء الله تعالى ، والصواب عصمة جميعهم وتنزيه جانبهم الرفيع عن جميع ما يحط من رتبتهم ومنزلتهم عن جليل مقدارهم ، واحتج من لم يوجب عصمة الملائكة جميعهم بأمور .

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما : قصة هاروت وماروت ، وهي قصة مشهورة ، وخلاصتها أن هاروت وماروت كانا ملكين ، وعجبا من عصيان بني آدم ، وقالا : لو ركبت فينا شهوة بني آدم لما عصينا ، فأنزلهما الله تعالى إلى الأرض ، وركب فيهما الشهوة وقيض الله لهما الزهرة - وكانت من أجمل نساء وقتها- وأعجبتهما ، وحملتهما على السجود للصنم وقتل النفس وشرب الخمر ، وتعلمت منهما الاسم الأعظم وصعدت به إلى السماء ، فمسخت إما كوكبا ، وإما سحابا ، وإنهما استشفعا بإدريس ، فخيرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فلبسا الحديد ومكثا في بيوتهما ببابل ، بينهما وبين الماء أربعة أصابع ، ويوجد في هذه القصة زيادة ونقصان واختلاف كثير .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ كمال الدين : وأئمة النقل لم يصححوا هذه القصة ، ولا أثبتوا روايتها عن علي وابن عباس - رضي الله تعالى عنهما- قال القاضي رحمه الله تعالى : إن هذه الأخبار لم يرو منها شيء لا صحيح ولا سقيم عن النبي- صلى الله عليه وسلم- ، قال وهذه الأخبار من كتب اليهود وافترائهم .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : ففي كتاب الله تعالى وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [البقرة : 102] .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : للناس في ذلك أقوال كثيرة ، والمحققون ذهبوا في معناها إلى غير ما ذكر أولا في قصة هاروت وماروت ، وقالوا في الآية قراءتان في (ملكين ) إحداهما بكسر اللام وهي شاذة ، والمشهورة بفتح اللام ، ولكن ذكروا في تأويل ذلك أن الله تعالى كان قد امتحن الناس بالملكين ، فإن السحر كان قد ظهر ، وظهر قول أهله ، فأنزل الله تعالى ملكين يعلمان الناس [ ص: 494 ]

                                                                                                                                                                                                                              حقيقة السحر ، ويوضحان أمره ليعلم الناس ذلك ، ويميزوا بينه وبين المعجزة والكرامة ، فمن جاء يطلب ذلك منهما ابتدراه وعلماه ، إنا إنما أنزلنا فتنة لتعليم السحر ، فمن تعلمه ليجتنبه ويعلم الفرق بينه وبين المعجزات والكرامات وما يظهره الله تعالى على أيدي عباده المؤمنين فذلك هو المرضي ، ومن تعلمه لغير ذلك أدى به إلى الكفر ، فلهذا كان الملكان يقدمان للملكين هذه المقالة ، ثم يقولان له : إن فعل الساحر كذا فرق بين المرء وزوجه ، فلا تتحيل بهذه الحيلة ولا تقل هذا القول ، فإنه من قول السحرة ويودي إلى الكفر ، ثم على هذا يكون فعل الملكين طاعة لأمر الله تعالى ، ومن الناس من ذكر وجها آخر ، وهو أن الله تعالى لما بين أن الكفار واليهود ادعوا على سليمان أنه ساحر ، وقالوا : إن الجن دفنت كتب السحر تحت مصلاه ، ثم أظهرتها بعد موته ليقول الناس كان ساحرا ، وأن سليمان قد جمع كتب السحر ودفنها لتضيع على الناس ، وأخرجها الجن واليهود بعد موته وصارت في أيديهم وفشا السحر فيما بينهم ، ولهذا كثر ما يؤخذ من السحر عند اليهود ، وكان اليهود يعزون ذلك إلى سليمان ، فقال تعالى وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ثم إن اليهود ادعت بعد ذلك أن السحر الذي في أيديهم من ميراث سليمان ، وأن جبريل وميكائيل نزلا به ، فأكذبهم الله تعالى في الأمرين ، فقال : وما أنزل على الملكين فتكون ما نافية على هذا القول عطفا على قوله تعالى وما كفر سليمان ويكون قوله (ببابل ) متعلقا بقوله يعلمون الناس السحر وعلى هذا فقيل : هاروت وماروت رجلان تعلما السحر .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحسن أنه قال : هاروت وماروت علجان من أهل بابل ، وما أنزل على الملكين بكسر اللام ، لكن ما على هذه القراءة اسمية ، ويكون الإنزال من الشياطين ، ويجوز أن تكون نافية وقرأ كذلك عبد الرحمن بن أبزى وفسر الملكين بداود وسليمان ، ولا تكون ما على هذا القول إلا نافية .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الإمام الرازي : ويدل على بطلان هذه القصة التي تروى في حديث هاروت وماروت أنهم ذكروا فيها أن الله تعالى قال لهما : لو ابتليتما مما ابتلي بنو آدم لعصيتماني ، فقالا : لو فعلت ذلك يا رب ما عصيناك وهذا لا يجوز نسبته إلى ملكين ، فإنه رد على الله تعالى ، ويدل على بطلانها أيضا أن التخيير وقع بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، والله تعالى خير العصاة بل الكفار بين التوبة والعذاب ، ولذلك رووا أنهما يعلمان الناس السحر حال كونهما معذبين ، وهذا من أعجب العجب ثم إنهم يروون أن المرأة التي فجرت صعدت إلى السماء ومسخت كوكبا مضيئا من السبعة السيارة ، وهذا مخالف للإقسام بالخنس الجوار الكنس . [ ص: 495 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ في الحبائك : وقال الصفوي الأموي في رسالته بعد أن ذكر عصمتهم واستدل عليها واحتج المخالف بقصة هاروت وماروت ، وبقصة إبليس مع آدم ، وباعتراضهم على الله تعالى في خلق آدم بقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها وجوابه على سبيل الإجمال : أن جميع ما ذكرتم محتمل احتمالا بعيدا أو قريبا ، وعلى التقديرين لا يعارض ما دل على عصمتهم زمن الصرائح والظواهر ، قال الشيخ : وهذا الجواب في قصة هاروت وماروت أعقد من الجواب الذي قبله لما تقدم عند ذكرهما من الأحاديث الصحيحة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال القرافي من أئمة المالكية : ومن اعتقد في هاروت وماروت إنما يعذبان بأرض الهند على خطيئتهما مع الزهرة فهو كافر ، بل هم رسل الله وخاصته يجب تعظيمهم وتوقيرهم وتنزيههم عن كل ما يخل بعظيم قدرهم ، ومن لم يفعل ذلك وجب إراقة دمه .

                                                                                                                                                                                                                              وقال البلقيني في منهج الأصلين : العصمة واجبة لصفة النبوة والملائكة ، وجائزة لغيرهما ، ومن وجبت له العصمة فلا يقع منه كبيرة ولا صغيرة ، ولذلك نعتقد عصمة الملائكة المرسلين منهم وغير المرسلين ، [قال الله تعالى : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون والآيات في هذا المعنى كثيرة] وإبليس لم يكن من الملائكة ، وإنما كان من الجن ففسق عن أمر ربه ، وأما هاروت وماروت [فلا يصح فيهما خبر ، وفي كتاب الجامع من المحلى لابن حزم أن هاروت وماروت ] من الجن ، وليسا ملكين .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ : قلت : فإن صح هذا لم يحتج إلى الجواب عن قصتهما ، كما أن إبليس لم يكن من الملائكة ، وإنما كان بينهم وهو من الجن .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الإمام أبو منصور الماتريدي إمام الحنفية في الاعتقاديات : كما أن الشيخ أبا الحسن الأشعري إمام الشافعية في ذلك ما نصه : «ثم إن الملائكة كلهم معصومون ، خلقوا للطاعة إلا هاروت وماروت » . وقال القرافي : اعلم أنه يجب على كل مكلف تعظيم الأنبياء بأسرهم ، وكذلك الملائكة ومن نال من أعراضهم شيئا فقد كفر ، سواء كان بالتعريض أو بالتصريح ، فمن قال في رجل يراه شديد البطش هذا أقسى قلبا من مالك خازن النار ، وقال في رجل يراه مشوه الخلق هذا أوحش من منكر ونكير ، فهو كافر ، إذ قال ذلك في معرض النقص بالوحاشة والقساوة .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : من الأدلة التي استدل بها من قال بعدم عصمتهم في قصة آدم وأمرهم بالسجود له ما قالوا عند خلقه والاحتجاج بها من وجوه : [ ص: 496 ] أحدها : اعتراضهم بقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : غيبتهم لبني آدم بذلك .

                                                                                                                                                                                                                              والثالث : إعجابهم وافتخارهم على بني آدم بقولهم ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك .

                                                                                                                                                                                                                              والرابع : مخالفة إبليس في الأمر بالسجود مع أنه كان من الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                              فهذه الوجوه الأربعة أشبه ما احتج به المخالف من هذه الآية ، وإن كان فيها وجوه أخر من الاحتجاج ، لكن أعرضنا عنها لضعفها ووضوح الجواب عنها ، والجواب عن هذه الوجوه .

                                                                                                                                                                                                                              أما الأول : وهو أنهم اعترضوا على الله تعالى ، فقد أجاب عنه أهل السنة بوجوه ثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : أن هذا ليس على سبيل الاعتراض ، وإنما هو على سبيل التعلم لأمر الله تعالى ، ومعناه أنهم قالوا ذلك ليظهروا عظمة حكمة الله تعالى ، وأنه جعل في الأرض من هذه صنعته ، وهذا الذي ظهر من حاله بحكمه عليها ومصلحة قدرها هو أعلم بها ، فكأنهم قالوا : سبحانك ربنا وتعاليت ما أعظم شأنك وحكمتك ، فعلمك بخفايا الأمور حيث تجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء ، وأنت أعلم بموضع المصلحة في ذلك ، ولهذا أجابهم بقوله إني أعلم ما لا تعلمون فإنه تقرير لهم على ما اعتقدوه من خفي حكمة الله تعالى وعلمه .

                                                                                                                                                                                                                              والثاني : أنهم لشدة محبتهم لله تعالى وحرصهم على الطاعة كرهوا المعصية ، فسألوا أعلامهم بما خفي من الحكمة في ذلك ، ليطمئنوا ويسكنوا إليه ، وهو قول الأخفش .

                                                                                                                                                                                                                              والثالث : وهو الذي اختاره القفال ، أن ذلك على سبيل الإثبات والإيجاب ، فهو استفهام تقرير وإيجاب ، وليس المراد به الاستعلام ولا الإنكار ، فكأنهم قالوا يفعل ذلك ، وهو كقول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                              ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح

                                                                                                                                                                                                                              أي : أنتم كذلك وقد قيل غير هذه الأجوبة لكن هذه أقواها .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فكيف علم الملائكة أن بني آدم يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض وكيف أضافوا ذلك إلى جميعهم مع أنه مضاف إلى البعض .

                                                                                                                                                                                                                              قلنا : لعلهم كانوا قد اطلعوا على ذلك من اللوح المحفوظ ، وأن الله تعالى أعلمهم [ ص: 497 ] بذلك أو علموه من جهة أنهم رأوا خلقه مركبا على الغضب والشهوة ، ومن كان كذلك فالظاهر أنه يفسد ويسفك الدماء ، أو علموه لأنهم لما رأوا ما خلق للإنسان من العذاب في النار ، أو لتسمية الله تعالى آدم خليفة فإنه قيم بفصل الخصومات ، فعلموا أحواله من جهة خلافته ، وكل هذه الوجوه منقولة .

                                                                                                                                                                                                                              وأما إضافتهم ذلك إلى جميع بني آدم فليس في الكلام صريح إضافة إلى الجميع ، ولو صدر هذا من واحد صح أن يقال : جعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء ، لأن من تقع على الواحد والجمع .

                                                                                                                                                                                                                              والجواب عن هذا الوجه الثاني : وهو أن قولهم : إن هذه غيبة لبني آدم ، أن الغيبة قد تباح للمصلحة في مواضع ، منها نصيحة المسلم في عبد يشتريه ، أو زوجة يتزوجها ، أو ما ناسب ذلك ، لحديث فاطمة بنت قيس ، لما خطبها معاوية وأبو جهم ،

                                                                                                                                                                                                                              وقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لها : «أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو جهم فلا يضع العصى عن عاتقه» ،

                                                                                                                                                                                                                              ومنها إعلامه بما يقال فيه ليتجنبه ، ومنها الإعلام بحال من لا يصلح لأمر مهم من أمور المسلمين ، مثل ولي أمر يريد أن يولي رجلا ما لا يصلح له ، ومثل رجل يريد أن يستفتي أو يتعلم منه ، ومنها أن يكون ذلك للتعريف ، كالألقاب ، ومنها ما يقع في الفتوى والتعلم ، فيجوز للمتعلم والمستفتي أن يوضح الحال فيما أريد السؤال عنه ، كقول المرأة للمفتي : زوجي كذا فما أفعل ، وقد صح في هذا حديث هند امرأة أبي سفيان وأنها قالت للنبي- صلى الله عليه وسلم- إن أبا سفيان رجل شحيح ، وجاز ذلك لحاجتها إلى علم ما يجوز لها أن تتناول من ماله ، وقصة الملائكة من هذا الباب ، لأن قصدهم إنما كان معرفة الحكم وإزالة الإشكال في ذلك والتعلم ، فكان ذلك من الغيبة الجائزة .

                                                                                                                                                                                                                              والجواب عن الوجه الثالث ، وهو أن قولهم : ونحن نسبح بحمدك إلى آخره جار مجرى الإعجاب من وجهين .

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما : أنا لا نسلم أن ذلك من باب مدح النفس ، بل هو من التحدث بنعم الله عز وجل ، والتحدث بنعم الله شكر ، وقد قال تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم- وأما بنعمة ربك فحدث .

                                                                                                                                                                                                                              والثاني : أن ذلك جار مجرى الاعتذار عما ذكروه ، لأن قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها في صورة الاعتراض ، فأراد الملائكة نفي توهم ذلك عنهم ، فأتبعوا سؤالهم بقولهم ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك يعنون الله تعالى أعلم ، أنا لسنا نعترض عليك في أمرك ، فإنا عبيدك المسبحون المقدسون .

                                                                                                                                                                                                                              والجواب عن الرابع هو أن إبليس كان من الملائكة وعصى ، وأن الناس اختلفوا فيه .

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام النووي : روي عن طاوس ومجاهد وابن عباس - رضي الله تعالى عنهما- أنه [ ص: 498 ]

                                                                                                                                                                                                                              كان من الملائكة ، واسمه عزرائيل فلما عصى الله تعالى لعنه وجعله شيطانا مريدا وسماه إبليس لأن الله أبلسه من الخير كله أي : أيس من رحمة الله تعالى ، والمبلس المكتئب الحزين .

                                                                                                                                                                                                                              قال الواحدي : والاختيار أنه ليس بمشتق لإجماع النحويين على أنه منع من الصرف للعجمة والمعرفة ، ثم قال وبهذا أي : بالقول أنه كان من الملائكة . قال ابن مسعود وابن المسيب وقتادة وابن جرير واختاره الرازي وابن الأنباري قالوا : وهو مستثنى من المستثنى منه ، قالوا وقول الله تعالى كان من الجن أي : طائفة من الملائكة يقال له الجن .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحسن ، وعبد الله بن يزيد ، وشهر بن حوشب : ما كان من الملائكة قط ، والاستثناء منقطع ، والمعنى عندهم أن الملائكة وإبليس أمروا بالسجود فأطاعت الملائكة كلهم وعصى إبليس ، والصحيح أنه من الملائكة ، لأنه لم ينقل أن غير الملائكة أمر بالسجود والأصل في الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى منه ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              وأما إنظاره إلى يوم الدين فزيادة في عقوبته وتكفير معاصيه وغوايته . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وقال القاضي : الأكثرون ينفون أنه ليس من الملائكة ، ويقولون : إنه أبو الجن ، كما أن آدم أبو الإنس .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية