الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن أبي النضر السلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار فقالت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أو اثنان قال أو اثنان [ ص: 111 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 111 ] 555 557 - ( مالك ، عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ) الأنصاري ( عن أبيه ، عن أبي النضر السلمي ) كذا رواه يحيى والأكثر غير مسمى ، وقال ابن بكير والقعنبي عن أبي النضر بأداة الكنية ، ولبعضهم عبد الله بن النضر ، ولبعضهم محمد بن النضر ، ولا يصح ، وابن النضر هذا مجهول في الصحابة والتابعين لا يعرف إلا بهذا الخبر ، ولا أعلم في الموطأ رجلا مجهولا غيره . وقال بعض المتأخرين : إنه أنس بن مالك بن النضر نسب إلى جده ، وكني تارة بأبي النضر ، وهذا جهل ; لأن أنسا نجاري ليس بسلمي من بني سلمة وكنيته أبو حمزة بإجماع ، قاله في التمهيد ، زاد الداني : وأنس وإن كان له ولد اسمه النضر فلم يكن به ، وجاء معنى الحديث عن أنس عند النسائي فظن بعض الناس أنه المعني هنا وليس كذلك ، وذكر كلام التمهيد . وقال في الاستيعاب : مجهول لا يعرف ولا يعرف له غير هذا الحديث ، وقد ذكروه في الصحابة ، ومنهم من يقول : عبد الله ، ومنهم من يقول : محمد ، ومنهم من يقول : أبو النضر ، كل ذلك قاله أصحاب مالك . فأما ابن وهب فجعل الحديث لأبي بكر بن محمد عن عبد الله بن عامر الأسلمي ، زاد الداني : انفرد ابن وهب بهذا ، قال في الإصابة : ويبعده من الصحابة رواية ابن وهب فإن عبد الله الأسلمي من أتباع التابعين ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد ) قال في الاستذكار : ساق مالك هذا الحديث لقوله ( فيحتسبهم ) فجعله تفسيرا للحديث قبله ، وهكذا شأنه في كثير من الموطأ ، انتهى . أي يصير راضيا بقضاء الله راجيا فضله ، فمن لم يحتسب لم يدخل في الوعد بل من تسخط ولم يرض بقدر الله فهو أقرب إلى الإثم ، قاله الباجي .

                                                                                                          ( إلا كانوا له جنة ) بضم الجيم وشد النون أي وقاية ( من النار ) ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا : " لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبهم إلا دخلت الجنة " ولأحمد والطبراني عن عقبة : " من أعطى ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله وجبت له الجنة " قال الحافظ : وقد عرف من القواعد الشرعية أن الثواب إنما يترتب على النية فلا بد من قيد الاحتساب ، والأحاديث المطلقة محمولة على المقيدة ، لكن أشار الإسماعيلي إلى اعتراض لفظي بأنه يقال في البالغ احتسب ، وفي الصغير افترط ، انتهى . وبه قال كثير من أهل اللغة ، لكن لا يلزم من كون ذلك هو الأصل أن لا يستعمل هذا في موضع هذا ، بل ذكر ابن دريد وغيره احتسب فلان بكذا طلب أجرا عند الله ، وهذا أعم من أن يكون لكبير أو [ ص: 112 ] صغير ، وثبت ذلك في الأحاديث المذكورة ، وهي حجة في صحة هذا الاستعمال ( فقالت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ) هي أم سليم الأنصارية والدة أنس بن مالك ، كما للطبراني بإسناد جيد عنها ، وكذا سألته أم مبشر الأنصارية عن ذلك وأم أيمن ، رواهما الطبراني أيضا . وللترمذي عن ابن عباس أن عائشة سألت ذلك . وحكى ابن بشكوال أن أم هانئ سألت عن ذلك ، فيحتمل أن كلا منهن سأل عن ذلك في المجلس . وأما تعدد القصة فبعيد ; لأنه لما سئل عن الاثنين بعد الثلاثة وأجاب بأنهما كذلك يبعد الاقتصار على الثلاثة بعد ذلك ، نعم في حديث جابر أنه ممن سأل عن ذلك ، وكذا عمر عند الحاكم وصححه ، وكذا أبو ذر ، وهذا لا يبعد تعدده ; لأن علم النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال .

                                                                                                          ( يا رسول الله أو اثنان ) قال عياض : فيه أن مفهوم العدد ليس بحجة ; لأن الصحابة من أهل اللسان ولم تعتبره إذ لو اعتبرته لانتفى الحكم عندها عما عدا الثلاثة ، لكنها جوزت ذلك فسألت كذا ، قال : وتبعه ابن التين ، والظاهر أنها اعتبرت مفهوم العدد إذ لو لم تعتبره لم تسأل ، والتحقيق أن دلالته ليست نصا بل محتملة ولذا سألت ( قال أو اثنان ) الظاهر أنه بوحي أوحي إليه في الحال ، وبه جزم ابن بطال وغيره ، ولا بعد في نزول الوحي في أسرع من طرفة عين ، ويحتمل أنه كان عالما بذلك لكنه أشفق عليهم أن يتكلوا ; لأن موت الاثنين غالبا أكثر من موت الثلاثة كما في حديث معاذ وغيره في الشهادة بالتوحيد ، ثم لما سئل عن ذلك لم يكن بد من الجواب ، والحديث ظاهر في التسوية بين حكم الثلاثة والاثنين ويتناول الأربعة فما فوقها من باب أولى ، ولذا لم تسأل عما زاد على الثلاثة ; لأنه من المعلوم عندهم أن المصيبة إذا كثرت كان الأجر أعظم . وقول القرطبي : خصت الثلاثة بالذكر ; لأنها أول مراتب الكثرة فتعظم المصيبة بكثرة الأجر ، وأما إن زاد عليها فقد يخف أمر المصيبة لكونها تصير كالعادة كما قيل : روعت بالبين حتى ما أراع له . جمود شديد فإن مات له أربعة فقد مات له ثلاثة ضرورة ; لأنهم إن ماتوا دفعة واحدة فقد مات له ثلاثة وزيادة ، ولا خفاء أن المصيبة بذلك أشد ، وإن ماتوا واحدا بعد واحد فإن الأجر يحصل له عند موت الثالث بنص الصادق ، فيلزم على كلام القرطبي إن مات له أربع ارتفع له ذلك الأجر مع تجدد المصيبة ، وكفى بهذا فسادا . ولابن حبان : فقالت المرأة : يا ليتني قلت وواحد . ولابن أبي شيبة من حديث أبي سعيد وأبي هريرة : ثم لم نسأله عن الواحد . ولأحمد عن محمود بن لبيد عن جابر مرفوعا : " من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة ، قلنا : واثنان ؟ قال : واثنان " قال محمود لجابر : أراكم لو قلتم وواحد لقال وواحد ، وأنا أظن ذلك .

                                                                                                          وهذه الأحاديث الثلاثة أصح من حديث جابر بن سمرة مرفوعا : " من دفن ثلاثة فصبر عليهم واحتسب وجبت له الجنة ، فقالت أم أيمن : أو اثنين ؟ قال : أو اثنين ، فقالت : وواحد ؟ فسكت ثم [ ص: 113 ] قال : وواحد " أخرجه الطبراني .

                                                                                                          وحديث ابن مسعود مرفوعا : " من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا من النار ، قال أبو ذر : قدمت اثنين ؟ قال : واثنين ، قال أبي بن كعب : قدمت واحدا ؟ قال : وواحدا " . رواه الترمذي وقال غريب ، وعنده عن ابن عباس : " من كان له فرطان من أمتي أدخله الله الجنة ، فقالت عائشة : ومن له فرط ؟ قال : ومن له فرط " ، وليس في شيء من طرق هذه الثلاثة ما يصلح للاحتجاج به ، لكن روى البخاري عن أبي هريرة رفعه : " يقول الله عز وجل : ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ، وهذا يدخل فيه الواحد فما فوقه ، وهو أصح ما ورد في ذلك ، انتهى ملخصا من فتح الباري . وتعميمه نفي صلاحية شيء من الثلاثة فيه شيء ، فقد قال الترمذي : حديث ابن عباس حسن غريب .




                                                                                                          الخدمات العلمية