الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو دبره ثم رهنه كان الرهن مفسوخا لأنه أثبت له عتقا قد يقع قبل حلول الرهن ، فلا يسقط العتق والرهن غير جائز وليس له أن يرجع في التدبير إلا بأن يخرجه من ملكه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما التدبير : فهو قول الرجل لعبده إذا مت فأنت حر أو أنت حر بموتي ، أو أنت حر في دبر حياتي ، فيعتق العبد بموت سيده ، ويكون عتقه من ثلثه ، وهو قبل موت السيد رقيق تجري عليه أحكام العبيد ، وإذا كان كذلك فقد اختلف قول الشافعي في التدبير فله فيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قوله في القديم وبعض الجديد : أن التدبير يجري مجرى الوصايا لأنها عطية بعد الموت معتبرة في الثلث فوجب أن تجري مجرى الوصايا كالموصى بعتقه ، فعلى هذا يصح الرجوع فيه بالقول والفعل مع بقائه في الملك ومع خروجه منه ، كما يصح أن يرجع في الوصايا بالقول والفعل مع بقائها في الملك وخروجها منه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو قوله في الجديد : أن التدبير يجري مجرى العتق بالصفات لأن تعليق عتقه بموته كتعليق عتقه بموت غيره ، فلما كان لو علق عتقه بموت غيره فقال : إذا مات زيد فأنت حر كان عتقا بصفة كذلك إذا علق عتقه بموته فقال : إذا مت فأنت حر كان عتقا بصفة فعلى هذا لا يصح أن يرجع فيه بالقول مع بقائه على ملكه كما لا يصح أن يرجع في العتق بالصفة بالقول مع بقائه على ملكه .

                                                                                                                                            [ ص: 105 ] فصل : فإذا ثبت هذان القولان في التدبير أنه هل يجري مجرى الوصية أو مجرى العتق بالصفة فرهن الرجل مدبره ففي رهنه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن رهنه باطل على القولين معا سواء قيل إنه عتق بصفة أو وصية لأنه قد يجوز أن يعتق قبل حلول الحق بموت السيد فتبطل الوثيقة به فلم يصح رهنه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن رهنه جائز على القولين معا سواء قيل إنه وصية أو عتق بصفة : لأنه لما جاز أن يطرأ عليه التدبير فيكون الرهن صحيحا لجواز بيعه جاز أن يطرأ الرهن على التدبير فيكون الرهن جائزا لجواز بيعه وليس ما يطرأ من جواز أن يعتق بموت السيد قبل حلول الحق بمانع من صحة الرهن كما أن الحيوان قد يجوز أن يموت قبل حلول الحق وذلك بمانع من صحة الرهن .

                                                                                                                                            والقول الثالث : أن رهنه جائز إذا قيل إن التدبير وصية وباطل إذا قيل إنه عتق بصفة وهذا أصح الأقاويل لأن الرهن رجوع عن التدبير مع بقاء الملك والرجوع عن التدبير مع بقاء الملك يجوز إذا قيل إن التدبير وصية ولا يجوز إذا قيل إنه عتق بصفة فلذلك جاز رهنه إذا قيل إن التدبير وصية ولا يجوز إذا قيل إنه عتق بصفة .

                                                                                                                                            ولأصحابنا في ترتيب هذه المسألة طرق مضطربة وهذه الطريقة أصحها .

                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما ذكرنا من هذه الأقاويل في حكم رهنه فإذا قلنا : إن رهنه باطل فالتدبير بحاله باق .

                                                                                                                                            وإذا قلنا : إن رهنه صحيح فهل يبطل التدبير أم لا ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن التدبير قد بطل وهذا على القول الثالث .

                                                                                                                                            والثاني : أن التدبير لا يبطل وهذا على القول الثاني .

                                                                                                                                            فإذا قلنا إن التدبير قد بطل فهو رهن يباع فيه وإن افتكه الراهن لم يعد التدبير وإن مات الراهن لم يعتق عليه لأن التدبير إذا بطل ارتفع حكمه ، وإذا قلنا : إن التدبير لا يبطل ، فإن افتكه الراهن بأداء الحق خرج من الرهن كان مدبرا بعتق بموت سيده ، وإن لم يفتكه بيع في الرهن لأن بيع المدبر جائز على مذهبنا فإذا بيع زال عنه حكم التدبير ، فإن ملكه الراهن فيما بعد ببيع أو هبة أو ميراث فهل يعود إلى التدبير أم لا ؟ على قولين مبنيين على اختلاف قوليه في الأيمان بالصفات في العتق والطلاق إذا وقعت في عقد هل يقع الحنث بها في عقد ثان أم لا .

                                                                                                                                            فأما إذا لم يفتكه الراهن ولا بيع في الرهن حتى مات الراهن ، فإن خلف وفاء لقضاء الحق عتق المدبر إذا كان خارجا من الثلث فإن لم يخلف وفاء لقضاء الحق بيع في الحق ، [ ص: 106 ] لأن قضاء الدين مقدم على العتق بالتدبير ، لأن محل التدبير في الثلث والدين من رأس المال وما وجب من رأس المال أحق بالتقديم مما وجب في الثلث .

                                                                                                                                            فإن كان الدين محيطا بجميع قيمته بيع جميعه في قضاء الدين ولم يعتق شيء منه بالتدبير ، وإن كان أقل من قيمته بيع منه بقدر الدين وعتق من الباقي بالتدبير قدر ما احتمله الثلث .

                                                                                                                                            فصل : فأما إذا رهن عبدا غير مدبر ، ثم دبره صح تدبيره ولم يبطل رهنه ، وكان حكمه على ما ذكر آنفا إذا دبره ثم رهنه صح رهنه ولم يبطل تدبيره ، فإن قيل : فهلا كان تدبير المرهون باطلا كما كان عتقه في بعض الأقاويل باطلا ؟ قيل : لأن العتق إزالة ملك يمنع من جواز البيع ، وليس التدبير إزالة ملك ولا يمنع من جواز البيع ، فإن قيل : فهلا كان التدبير إذا طرأ على الرهن مانعا من صحة الرهن ، كما لو كان التدبير متقدما منع في بعض الأقاويل من صحة الرهن ؟ قيل : لأن استدامة الرهن أقوى من ابتدائه ، ألا ترى أن جناية المرهون إذا طرأت على الرهن لم تمنع صحة الرهن ولو تقدمت على الرهن منعت من صحة الرهن .

                                                                                                                                            فصل : فأما المزني فإنه اختار أن التدبير وصية ، واختار أن الرهن مبطل للتدبير كما كان مبطلا للوصية .

                                                                                                                                            فأما ما اختاره من أن التدبير وصية وليس بعتق بصفة ، فاستدل عليه من مذهب الشافعي بمسألتين ليس له فيهما دليل :

                                                                                                                                            إحداهما : أنه قال : قد قال الشافعي : ولو قال لمدبره : إن أديت كذا بعد موتي فأنت حر أنه رجوع في التدبير ، ولا دليل للمزني في هذه المسألة لأن الشافعي قال ذلك على القول الذي يزعم أن التدبير وصية ، فأما على القول الآخر الذي يقول إن التدبير عتق بصفة ، فلا يختلف أصحابنا أنه لا يكون رجوعا عن التدبير .

                                                                                                                                            والمسألة الثانية : أن قال : قد قال الشافعي رحمه الله : ولو وجب المدبر ولم يقبضه إنه رجوع في التدبير .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا في هذه المسألة على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الهبة قبل القبض تكون رجوعا في التدبير على القول الذي يقول : إن التدبير وصية فأما على القول الذي يقول إن التدبير عتق بصفة فلا يكون رجوعا في التدبير .

                                                                                                                                            فعلى هذا لا دليل للمزني في هذه المسألة كما لم يكن له دليل في تلك .

                                                                                                                                            [ ص: 107 ] والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة : أنه يكون رجوعا في التدبير على القولين معا سواء قلنا إن التدبير وصية أو عتق بصفة .

                                                                                                                                            فعلى هذا الفرق بين الرهن والهبة : أن الهبة تزيل الملك بعد القبض وهي أحد موجبي زوال الملك قبل القبض ، والرهن لا يزيل الملك ولا هو أحد موجبي ما يزيل الملك فلذلك كانت الهبة رجوعا وإن لم يقبض على القولين معا بخلاف الرهن .

                                                                                                                                            فأما ما اختاره من أن الرهن مبطل للتدبير كما كان مبطلا للوصية فالجواب عنه أن يقال : أما على القول الذي يزعم أن التدبير عتق بصفة فلا يكون الرهن رجوعا عن التدبير لا يختلف فيه وأما على القول الذي يزعم أن التدبير وصية فقد اختلف أصحابنا في عقد الرهن إذا تجدد هل يبطل التدبير والوصية أم لا ؟ على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن عقد الرهن يبطل التدبير والوصية جميعا لأنهما يبطلان بالقول مع بقاء الملك ، والرهن كالقول في الرجوع ، فعلى هذا قد صح للمزني المذهب وسلم له الدليل .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن عقد الرهن لا يبطل التدبير ولا الوصية جميعا لأن عقد الرهن ليس بصريح في الرجوع ولا فيه دليل على الرجوع ، وإنما صارت رقبته وثيقة بحق المجني عليه فلم يجز أن يكون الرهن رجوعا كما لم تكن جناية العبد رجوعا ، فعلى هذا لم يصح للمزني المذهب ولا سلم له الدليل .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن الرهن يكون رجوعا في الوصية ولا يكون رجوعا في التدبير ، والفرق بينهما : أن التدبير أقوى من الوصية وإن جرى مجرى الوصية لأن التدبير عطية تقع بالموت لا تفتقر إلى قبول فقوي حكمها ولم تبطل بالرهن والوصية لا تملك إلا بالقبول بعد الموت فكانت أضعف من التدبير فبطلت بالرهن ، فعلى هذا قد صح للمزني المذهب ولم يسلم له الدليل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية