الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب )

قال الكلبي : عيرت اليهود الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : ما ترى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح ، ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء ، فنزلت هذه الآية . قيل : وكانوا يقترحون عليه الآيات وينكرون النسخ ، فرد الله تعالى عليهم بأن الرسل قبله كانوا مثله ذوي أزواج وذرية ، وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ، ولا يأتون بما يقترح عليهم . ومن الشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات ، فلكل وقت حكم يكتب فيه على العباد ؛ أي : يفرض عليهم ما يريده تعالى . وقوله : ( لكل أجل كتاب ) لفظ عام في الأشياء التي لها آجال ؛ لأنه ليس منها شيء إلا وله أجل في بدئه وفي خاتمته ، وذلك الأجل مكتوب محصور . وقال الضحاك والفراء : المعنى لكل كتاب أجل ، ولا يجوز ادعاء القلب إلا في ضرورة الشعر ، وأما هنا فالمعنى في غاية الصحة بلا عكس ولا قلب بل ادعاء القلب هنا لا يصح المعنى عليه ، إذ ثم أشياء كتبها الله تعالى أزلية كالجنة ونعيم أهلها لا أجل لها . والظاهر أن المحو عبارة عن النسخ من الشرائع والأحكام ، والإثبات عبارة عن دوامها وتقريرها وبقائها ؛ أي : [ ص: 398 ] يمحو ما يشاء محوه ، ويثبت ما يشاء إثباته . وقيل : هذا عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ، ونسب هذا إلى عمر وابن مسعود وأبي وائل والضحاك وابن جريج وكعب الأحبار والكلبي .

وروي عن عمر وابن مسعود وأبي وائل في دعائهم ما معناه : إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم أو في الأشقياء فامحني منهم ، وإن صح عنهم فينبغي أن يتأول على أن المعنى : إن كنت أشقيتنا بالمعصية فامحها عنا بالمغفرة . ومعلوم أن الشقاء والسعادة والرزق والخلق والأجل لا يتغير شيء منها . وقال ابن عباس : يمحو الله ما يشاء من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال ، فإنه لا محو فيها . وقال الحسن وفرقة : هي آجال بني آدم تكتب في ليلة القدر . وقيل : في ليلة نصف شعبان آجال الموتى ، فتمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الأموات . وقال قيس بن عباد : في العاشر من رجب يمحو الله ما يشاء ويثبت . وقال ابن عباس والضحاك : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة ؛ لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ، ويثبت غيره . وقيل : يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة ، ويثبت إيمانهم وطاعتهم . وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضا من الأناسي وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها . وقال الزمخشري : يمحو الله ما يشاء ، ينسخ ما يستصوب نسخه ، ويثبت به له ما يرى المصلحة في اتباعه ، أو يتركه غير منسوخ ، والكلام في نحو هذا واسع المجال ، انتهى . وهو وقول قتادة وابن جبير وابن زيد قالوا : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه . وقال مجاهد : يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء إلا الحياة والموت والشقاوة والسعادة . وقال الكلبي : يمحو من الرزق ويزيد فيه . وقال ابن جبير أيضا : يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ، ويترك ما يشاء فلا يغفر . وقال عكرمة : يمحو يعني بالتوبة جميع الذنوب ، ويثبت بدل الذنوب حسنات . قال تعالى : ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات ) وقيل : ينسي الحفظة من الذنوب ولا ينسى . وقال الحسن : يمحو الله ما يشاء أجله ، ويثبت من يأتي أجله . وقال السدي : ( يمحو الله ) يعني القمر ، ( ويثبت ) يعني الشمس ؛ بيانه ( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) الآية .

وقال ابن عباس : إن لله لوحا محفوظا وذكر وصفه في كتاب التحبير ، ثم قال : لله تعالى فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة ، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء . وقال الربيع : هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها عند النوم إذا أراد موته فجأة أمسكه ، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه ؛ بيانه قوله تعالى : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) الآية . وقال علي بن أبي طالب : يمحو الله ما يشاء من القرون لقوله : ( ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون ) ويثبت ما يشاء منها لقوله تعالى : ( ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ) فيمحو قرنا ويثبت قرنا . وقال ابن عباس : ( يمحو ) يميت الرجل على ضلالة وقد عمل بالطاعة الزمن الطويل ، يختمه بالمعصية ويثبت عكسه . وقيل : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة . وفي الحديث عن أبي الدرداء : " أنه تعالى يفتح الذكر في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر ما في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء " وقال الغزنوي : ما في اللوح المحفوظ خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة ، فيحتمل التبديل وإحاطته الخلق بجميع علم الله تعالى ، وما في علمه تعالى من تقدير الأشياء لا يبدل ، انتهى . وقيل : غير ذلك مما يطول نقله . وقد استدلت الرافضة بقوله : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) على أن البدء جائز على الله تعالى ، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الأمر خلاف ما اعتقده ، وهذا باطل لأن علمه تعالى من لوازم ذاته المخصوصة ، وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل [ ص: 399 ] فيه محالا ، وأما الآية فقد احتملت تلك التأويلات المتقدمة ، فليست نصا فيما ادعوه ، ولو كانت نصا وجب تأويله .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم : ( ويثبت ) مخففا من أثبت ، وباقي السبعة مثقلا من ثبت . وأما قوله : ( أم الكتاب ) فقال ابن عباس ( أم الكتاب ) الذكر . وقال أيضا هو وكعب : هو علم ما هو خالق وما خلقه عاملون . وقالت فرقة : الحلال والحرام ، وهو قول الحسن . وقال الزمخشري : أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ ؛ لأن كل كائن مكتوب فيه ، انتهى . وما جرى مجرى الأصل للشيء تسميه العرب ، أما كقولهم : أم الرأس للدماغ ، وأم القرى مكة . وقال ابن عطية : وأصوب ما يفسر به ( أم الكتاب ) أنه ديوان الأمور المحدثة التي قد سبق في القضاء أن تبدل وتمحى أو تثبت . وقال نحوه قتادة : إن جواب الشرط الأول محذوف ، وكلام ابن عطية في " ما ، ونون التوكيد " . وقال الزمخشري : وإما نرينك ، وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم ، وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم ، أو نتوفينك قبل ذلك ، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة ، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم ، فلا يهمنك إعراضهم ، ولا تستعجل بعذابهم ، انتهى . وقال الحوفي وغيره : ( فإنما عليك البلاغ ) جواب الشرط ، والذي تقدم شرطان ؛ لأن المعطوف على الشرط شرط . فأما كونه جوابا للشرط الأول فليس بظاهر ؛ لأنه لا يترتب عليه ، إذ يصير المعنى : وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب فإنما عليك البلاغ . وأما كونه جوابا للشرط الثاني هو أو نتوفينك فكذلك ؛ لأنه يصير التقدير : إن ما نتوفينك فإنما عليك البلاغ ، ولا يترتب وجوب التبليغ عليه على وفاته - عليه السلام - ، لأن التكليف ينقطع بعد الوفاة فيحتاج إلى تأويل وهو : أن يتقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتبا عليه . وذلك أن يكون التقدير - والله أعلم - وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك ، ودليل على صدقك ، إذا أخبرت بما يحل بهم . ولم يعين زمان حلوله بهم ، فاحتمل أن يقع ذلك في حياتك ، واحتمل أن يقع بهم بعد وفاتك . ( أو نتوفينك ) أي : أو أن نتوفينك قبل حلوله بهم ، فلا لوم عليك ولا عتب ، إذ قد حل بهم بعض ما وعد الله به على لسانك من عذابهم ، فإنما عليك البلاغ ، لا حلول العذاب بهم ؛ إذ ذاك راجع إلي ، وعلينا جزاؤهم في تكذيبهم إياك ، وكفرهم بما جئت به .

التالي السابق


الخدمات العلمية