الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما لا يحل للمحرم أكله من الصيد

                                                                                                          حدثني يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          25 - باب ما لا يحل للمحرم أكله من الصيد

                                                                                                          793 783 - ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ، ( عن عبيد الله ) - بضم العين - ( ابن عبد الله ) - بفتحها - ( ابن عتبة ) - بضمها - ( ابن مسعود ) الهذلي أحد الفقهاء ، ( عن عبد الله بن عباس ) الحبر الترجمان ، ( عن الصعب بن جثامة ) - بفتح الجيم ، والمثلثة الثقيلة ، فألف ، فميم - ابن قيس بن ربيعة بن عبد الله بن يعمر الليثي ، حليف قريش ، أمه أخت أبي سفيان بن حرب ، واسمها : فاختة ، وقيل : زينب ، ويقال : هو أخو محلم بن جثامة ، وكان الصعب ينزل ودان ، مات في خلافة عثمان على الأصح ، ويقال : في آخر خلافة عمر ويقال : الصديق ، وهو غلط ، فقد روى ابن السكن بإسناد صالح عن راشد بن سعد ، قال : لما فتحت إصطخر ناد مناد : ألا إن الدجال قد خرج ، فقال الصعب بن جثامة : لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره ، وفتحها في خلافة عمر .

                                                                                                          وروى ابن إسحاق عن عروة ، قال : لما ركب أهل العراق في الوليد بن عقبة ، أي يشكونه لعثمان ، كانوا خمسة : منهم : الصعب بن جثامة ، وله أحاديث ، وآخى - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عوف بن مالك ، ثم لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث ، وأنه من مسند الصعب ، ووقع في موطأ ابن وهب عن ابن عباس أن الصعب فجعله من مسند ابن عباس ، وكذا أخرجه مسلم عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال الحافظ : والمحفوظ في حديث مالك الأول ، يعني أنه من مسند الصعب [ ص: 421 ] بن جثامة ( أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمارا وحشيا ) لا خلاف عن مالك أيضا في هذا ، وتابعه معمر ، وابن جريج ، وعبد الرحمن بن الحارث ، وصالح بن كيسان ، والليث بن أبي ذئب ، وشعيب بن أبي حمزة ، ويونس ، ومحمد بن عمرو بن علقمة كلهم ، قالوا : " حمارا وحشيا " كما قال مالك ، وخالفهم سفيان بن عيينة عن الزهري ، فقال : " أهديت له من لحم حمار وحش " ، رواه مسلم .

                                                                                                          وله عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : " رجل حمار وحش " ، وله عن شعبة عن الحكم : " عجز حمار وحش يقطر دما " ، وفي أخرى له : " شق حمار وحش " ، فهذه الروايات صريحة في أنه عقير ، وأنه إنما أهدى بعضه ، لا كله ، ولا معارضة بين رجل ، وعجز ، وشق ، لأنه يحمل على أنه أهدى رجلا معها الفخذ ، وبعض جانب الذبيحة ، فمنهم من رجح رواية مالك ، وموافقيه .

                                                                                                          قال الشافعي في الأم : حديث مالك أن الصعب أهدى حمارا أثبت من حديث من روى أنه أهدى لحم حمار .

                                                                                                          وقال الترمذي : روى بعض أصحاب الزهري في حديث الصعب ( لحم حمار وحش ) وهو غير محفوظ .

                                                                                                          وقال البيهقي : كان ابن عيينة يضطرب فيه ، فرواية العدد الذين لم يشكوا فيه أولى ، وقد قال ابن جريج : قلت لابن شهاب : الحمار عقير ؟ قال : لا أدري .

                                                                                                          ومنهم من جمع بحمل رواية أهدى حمارا على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض ، ويمتنع عكسه ، إذ إطلاق الرجل على كل الحيوان غير معهود ، إذ لا يطلق على زيد أصبع ، ونحوه ، إذ شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم ، كالرقبة على الإنسان والرأس ، فإنه لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل ، والظفر .

                                                                                                          وقال القرطبي : يحتمل أن الصعب أحضر الحمار مذبوحا ، ثم قطع منه عضوا بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدمه له ، فمن قال أهدى حمارا ، أراد بتمامه مذبوحا ، لا حيا ، ومن قال لحم حمار ، أراد ما قدمه للنبي ، صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                          قال : ويحتمل أنه أحضره له حيا ، فلما رده عليه ذكاه ، وأتاه بعضو منه ظنا منه أنه إنما رده لمعنى يختص بجملته ، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء حكم الكل ، انتهى .

                                                                                                          وهذا الجمع قريب ، وفيه إبقاء اللفظ على المتبادر منه الذي ترجم عليه البخاري إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل ، مع أنه لم يقل في الحديث : حيا ، فكأنه فهمه من قوله حمارا .

                                                                                                          وفي التمهيد قال إسماعيل : سمعت سليمان بن حرب يتأول الحديث على أنه صيد من أجله - صلى الله عليه وسلم - ويدل عليه قوله : فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت ، ولولا ذلك لجاز أكله .

                                                                                                          قال إسماعيل : وإنما تأول رواية لحم حمار لاحتياجها للتأويل ، فأما رواية حمار وحش فلا تحتاج لتأويل ، لأن المحرم لا يجوز له مسك صيد حيا ، ولا يذكه ، وعلى هذا التأويل تتفق الأحاديث .

                                                                                                          ( وهو بالأبواء ) - بفتح الهمزة ، وسكون الموحدة ، والمد - جبل بينه وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا ، سمي بذلك لتبوء السيول به لا لما فيه من الوباء ، إذ لو كان كذلك لقيل : الأوباء ، أو هو مقلوب منه .

                                                                                                          ( أو بودان ) - بفتح الواو ، وشد الدال [ ص: 422 ] المهملة ، فألف ، فنون - موضع قرب الجحفة ، أو قرية جامعة أقرب إلى الجحفة من الأبواء بينهما ثمانية أميال ، والشك من الراوي ، وجزم ابن إسحاق ، وصالح بن كيسان عن الزهري بودان ، وجزم معمر ، وعبد الرحمن بن إسحاق ، ومحمد بن عمرو بالأبواء ، ( فرده عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي رد الحمار على الصعب ، واتفقت الرواية كلها على رده إلا ما رواه ابن وهب ، والبيهقي من طريقه بإسناد حسن عن عمرو بن أمية : " أن الصعب أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - عجز حمار وحش وهو بالجحفة ، فأكل منه ، وأكل القوم " قال البيهقي : إن كان هذا محفوظا ، فلعله رد الحي ، وقيل : اللحم .

                                                                                                          قال الحافظ : وفيه نظر فإن كانت الطرق كلها محفوظة ، فلعله رده حيا ، لكونه صيد لأجله ، ورد اللحم تارة لذلك ، وقيل : تارة أخرى حيث علم أنه لم يصد لأجله .

                                                                                                          وقد قال الشافعي : إن كان الصعب أهدى حمارا حيا فليس للمحرم أن يذبح حمارا وحشيا حيا ، وإن كان أهدى لحما فيحتمل أن يكون علم أنه صيد له .

                                                                                                          ونقل الترمذي عن الشافعي أنه رده ظنه أنه صيد من أجله ، فتركه على وجه التنزه ، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على حال رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من مكة ، ويؤيده أنه جازم فيه بوقوع ذلك في الجحفة ، وفي غيرها من الروايات بالأبواء ، أو بودان .

                                                                                                          ( فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما في وجهي ) من الكراهة لما حصل له من الكسر برد هديته قال تطييبا لقلبه : ( إنا ) - بكسر الهمزة لوقوعها في الابتداء - ( لم نرده ) - بفتح الدال - رواه المحدثون ، وقال محققو النحاة : إنه غلط ، والصواب : ضم الدال كآخر المضاعف من كل مضاعف مجزوم اتصل به ضمير المذكر مراعاة للواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها ، لخفاء الهاء فكأن ما قبلها ولي الواو ، ولا يكون ما قبل الواو إلا مضموما هذا في المذكر ، أما المؤنث مثل : ردها ، فمفتوح الدال مراعاة للألف ، ذكره عياض وغيره ، وجوز الكسر وهو ضعيف أضعف من الفتح ، وإن أوهم ثعلب فصاحة الفتح ، وقد غلطوه لأنه ذكره في الفصيح ، ولم ينبه على ضعفه ، ( عليك ) لعلة من العلل ( إلا أنا ) - بفتح الهمزة - أي لأجل أنا ، ( حرم ) - بضم الحاء والراء - جمع حرام ، والحرام : المحرم ، أي محرمون ، وتمسك بظاهره من حرم لحم الصيد على المحرم مطلقا صاده المحرم ، أو صاده حل له ، أو لم يقصده به ، وقال به علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - علل رده بأنه محرم ، ولم يقل بأنك صدته لنا ، وهو ظاهر قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ( سورة المائدة ، الآية 96 ) وذهب الجمهور ، والأئمة الثلاثة إلى أن ما صاده حلال لنفسه ، ولم يقصد المحرم يجوز أكله للمحرم بخلاف ما قصد به .

                                                                                                          وقال أبو حنيفة بجواز ما صيد له بلا إعانة منه ، واحتج الجمهور بحديث أبي قتادة السابق ، وحديث جابر ، مرفوعا : صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم " الرواية يصاد - بالألف - على لغة كقوله : ألم يأتيك .

                                                                                                          وحملوا حديث [ ص: 423 ] الصعب على أنه قصدهم باصطياده ، لأنه كان عالما بأنه - صلى الله عليه وسلم - يمر به فصاده لأجله ، والآية الكريمة على الاصطياد ، وعلى لحم ما صيد للمحرم للأحاديث المذكورة المبنية للمراد من الآية ، وتعليله - صلى الله عليه وسلم - للصعب بأنه محرم ، لا يمنع كونه صيد له ، ولأنه بين الشرط الذي يحرم الصيد على الإنسان إذا صيد له ، وهو الإحرام ، وقبل حمار البهزي ، وفرقه على الرفاق ، لأنه كان يتكسب بالصيد ، فحمله على عادته في أنه لم يصد لأجله - صلى الله عليه وسلم - وفي معناه حديث أبي قتادة ، ودعوى نسخه لأنه كان عام الحديبية بحديث الصعب ، لأنه كان في حجة الوداع ، إنما يصار إليها إذا تعذر الجمع ، كيف والحديث المتأخر لا دلالة فيه على الحرمة العامة صريحا ، ولا ظاهرا حتى يعارض الأول فينسخه ، هذا على رواية أنه أهدى لحما ، أما على أنه أهداه حيا ، فواضح ، فالإجماع على أنه يحرم على المحرم قبول صيد وهب له وشراؤه واصطياده واستحداث ملكه بوجه من الوجوه ، وأصل الإجماع : الآية ، وحديث الصعب بناء على أنه حي ، وفيه كراهية رد هدية الصديق لما يقع في قلبه ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - طيب نفسه بذكر عذر الرد ، وفيه رد ما لا يجوز - للمهدى - الانتفاع به ، وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه كلهم من طريق مالك أيضا .




                                                                                                          الخدمات العلمية