الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة غير المجتهد يجوز له تقليد المجتهد الحي باتفاق ، كذا قالوا ، لكن منعه ابن حزم الظاهري ، وروى بسنده إلى ابن مسعود رضي الله عنه النهي عن تقليد الأحياء لأنه لا يؤمن عليه الفتنة ، قال : وإن كان [ لا ] محالة مقلدا فليقلد الميت . انتهى . فإن قلد ميتا ففيه مذاهب : أحدها : وهو الأصح وعليه أكثر أصحابنا كما قاله الروياني ، الجواز ، وقد قال الشافعي : المذاهب لا تموت بموت أربابها ، ولا بفقد أصحابها ، وربما حكي فيه الإجماع ، وأيده الرافعي بموت الشاهد بعدما يؤدي شهادته عند الحاكم ، فإن شهادته لا تبطل .

                                                      قلت : ولقوله صلى الله عليه وسلم : { اقتدوا باللذين [ ص: 349 ] من بعدي أبي بكر وعمر } وقوله : { بأيهم اقتديتم اهتديتم } ، ولهذا يعتد بأقوالهم بعد موتهم في الإجماع والخلاف . واحتج الأصوليون عليه بانعقاد الإجماع في زماننا ، على جواز العمل بفتاوى الموتى ، والإجماع حجة . قال الهندي : وهذا فيه نظر ، لأن الإجماع إنما يعتبر من أهل الحل والعقد ، وهم المجتهدون ، والمجمعون ليسوا مجتهدين فلا يعتبر إجماعهم بحال ، أو نقول بعبارة أخرى ، إنما يعتبر اتفاقهم على جواز إفتاء غير المجتهد ، فلو أثبت جواز إفتائه بهذا لزم الدور . انتهى . والظاهر أن المراد إجماع المجتهدين قاطبة . ثم قال : والأولى في ذلك التمسك بالضرورة ، فإنا لو لم نجوز ذلك ، لأدى إلى فساد أحوال الناس ، وهذا شيء سبقه إليه الرافعي وغيره ، فقالوا : لو منعنا من تقليد الماضين ، لتركنا الناس حيارى ، وقضيته أن الخلاف يجري وإن لم يكن في العصر مجتهد ، وذلك هو صريح قول المحصول " : " إنه لا يجتهد اليوم " ، مع قوله قبله " لا يقلد الميت " .

                                                      وهذا بعيد جدا ، وإنما الخلاف ، فيما إذا كان في القطر مجتهد ومجتهدون : فمن قائل موت المجتهد لا يميت قوله ، فكأنه أحد الأحياء ، فيقلد ، ولا ينعقد الإجماع بخلاف قوله ، ومن قائل ، بل يبطل قوله ، ويتعين الأخذ بقول الحي ، وقد كان يمكن أن يفصل بين أن يكون الميت أرجح من الحي ، فلا يترك قوله ، لا سيما إذا أوجبنا تقليد الأعلم ، أو يفصل بين أن يطلع المجتهد الحي على مأخذ الميت ثم يخالفه ، فلا يقلد الميت حينئذ ، أو لا يطلع فيقلد ، فيه نظر واحتمال . والثاني : المنع المطلق ، إما لأنه ليس من أهل الاجتهاد ، كمن تجدد فسقه بعد عدالته لا يبقى حكم عدالته ، وإما لأن قوله وصفه ، وبقاء الوصف مع زوال الأصل محال ، وإما لأنه لو كان حيا لوجب عليه تجديد الاجتهاد ، وعلى تقدير تجديده ، لا يتحقق بقاؤه على القول الأول ، فتقليده بناء على [ ص: 350 ] وهم أو تردد ، والقول بذلك غير جائز . وهذا الوجه نقله ابن حزم عن القاضي . قال : ولا نعلم أحدا قاله قبله . ونصره ابن الفارض المعتزلي في كتاب النكت " وحكى الغزالي في المنخول " فيه إجماع الأصوليين . وقال الروياني في البحر " : إنه القياس ، واختاره صاحب المحصول " فيه فقال : اختلفوا في غير المجتهد ، هل يجوز له الفتوى بما يحكيه عن المفتين ؟ فنقول : لا يخلو إما أن يحكي عن ميت أو عن حي ، فإن حكى عن ميت ، لم يجز له الأخذ بقوله ، لأنه لا قول للميت ، بدليل أن الإجماع لا ينعقد مع خلافه حيا ، وينعقد مع موته ، وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته . فإن قلت : لم صنفت كتب الفقه مع فناء أصحابها ؟ قلت : لفائدتين : ( إحداهما ) : استبانة طرق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث ، وكيف بني بعضها على بعض .

                                                      ( والثانية ) : معرفة المتفق عليه من المختلف ، فلا يفتى بغير المتفق عليه . ثم قال : ولقائل أن يقول : إذا كان الراوي عدلا ثقة متمكنا من فهم كلام المجتهد الذي مات ، ثم روى للعامي قوله حصل للعامي ظن صدقه ، ثم إذا كان المجتهد عدلا ثقة عالما ، فذلك يوجب ظن صدقه في تلك الفتوى ، فحينئذ يتولد من هاتين الطبقتين للعامي أن حكم الله نفس ما روى له هذا الراوي الحي عن ذلك المجتهد الميت ، والعمل بالظن واجب ، فوجب أن يجب على العامي العمل بذلك ، وأيضا فقد انعقد الإجماع في زماننا هذا على جواز العمل بهذا النوع من الفتوى ، لأنه ليس في هذا الزمان مجتهد ، والإجماع حجة .

                                                      [ ص: 351 ] قال النقشواني : في قول الإمام : " ليس في الزمان مجتهد " مع قوله : " انعقد الإجماع " مناقضة ، وقد سلم في المنتخب " منها ، ولم يقل فيه أنه لا يجتهد في زمننا . واختصره صاحب التحصيل " ، إلا أنه لم يقل : والإجماع حجة ، ولكن قال : وانعقد الإجماع في زماننا ، وكل ذلك سعي في دفع التناقض ، والذي فعله في المنتخب " ، هو الذي فعله صاحب الحاصل " تلميذ الإمام ، وهو أعرف أصحابه بكلامه . فقال : وأيضا فقد انعقد الإجماع في زماننا على جواز العمل بفتاوى الموتى ، والإجماع حجة ، وتبعه البيضاوي فقال في المنهاج " : واختلف في تقليد الميت ، والمختار جوازه للإجماع عليه في زماننا . فهؤلاء الذين تصرفوا في كلام الإمام بالزيادة والنقصان ، والذين نقلوا كلامه ، اعترضوا عليه بالمناقضة كالنقشواني ، والذي يدفع التناقض ، أن قول الإمام : لا مجتهد في الزمان لا يعارضه قوله " انعقد الإجماع في زماننا " ، لأن المعنى به إجماع السابقين على حكم أهل هذا الزمان فيه ، كما أنا نحكم الآن على أهل الزمان الذي تندرس فيه أعلام الشريعة ، وقد عقد إمام الحرمين في الغياثي " بابا عظيما في ذلك ، وفيه وجه آخر سيأتي . والثالث : الجواز بشرط فقد الحي ، وجزم إلكيا وابن برهان . والرابع : التفصيل بين أن يكون الناقل له أهل للمناظرة ، مجتهدا في ذلك المجتهد الذي يحكى عنه ، فيجوز ، وإلا فلا قاله الآمدي والهندي ، ويمكن أن يكون هذا مأخوذا من وجه حكاه الرافعي في مسألة ما إذا عرف العامي مسألة ، أو مسائل بدلائلها ، أنه إن كان الدليل نقليا جاز ، أو قياسيا فلا ، وعلى هذا فينبغي للهندي أن يقيد تفصيله بما إذا كان المنقول قياسيا ، وأن لا يجوزه إذا كان نقليا ، لكنه مخالف للمذهب الصحيح ، فإن الصحيح أنه لا يجوز تقليده ولا فتياه مطلقا ، لأنه بهذا القدر من المعرفة لا يخرج عن كونه عاما ، والظاهر أن الهندي إنما أخذ تفصيله ، من بناء الأصحاب جواز .

                                                      [ ص: 352 ] فتيا متبحر المذهب بمذهب الميت على جواز تقليد الميت ، فإن فرض أن الناقل بحيث لا يوثق بنقله فهما ، وإن وثق به نقلا تطرق عدم الوثوق بفهمه إلى عدم الوثوق بنقله ، وصار عدم قبوله لعدم حجة المذهب المنقول إليه ، لا لأن الميت لا يقلد ، فليس التفصيل واقفا ، غير أن عذر الهندي أنه لم يعقد المسألة لتقليد الميت ، كما فعل الإمام . تنبيهان الأول قيل : الخلاف هنا مخرج من الخلاف في إعادة الاجتهاد عند حدوث الحادثة مرة أخرى .

                                                      الثاني قيد بعضهم الخلاف في هذه المسألة ، بما إذا كان في العصر مجتهد أو مجتهدون ، فإن لم يكن فلا خلاف في تقليد الميت ، لئلا تضيع الشريعة ، قال : وإطلاق من أطلق محمول عليه . إنما النظر في شيئين : أحدهما : إذا لم يخل عن مجتهد ، ففي ظن كثير من الناس أنه يقلد الميت حينئذ ، والمنقول عن الغزالي ، وابن عبد السلام ، أنه يجب تقليد مجتهد العصر ، ولا يجوز تقليد الميت ، وبهذا تبين أنه لا يمكن الإجماع على تقليد الموتى إلا من غير المجتهدين ، فاجتمع قول الإمام : " انعقد الإجماع " وقوله : " لا مجتهد في الزمان " ، إذا تبينا أنه لو كان في الزمان مجتهد ، لم ينعقد الإجماع على تقليد ، بل إما أن تختلف في ذلك إن كان في تقليد الميت عند [ ص: 353 ] وجود مجتهد حي خلاف ، وإما أن يتفق على أن الميت لا يقلد حينئذ للاستغناء عنه بالمجتهد الحي ، وهذه طريقة الغزالي ، وابن عبد السلام . وثانيهما : إذا خلا عن مجتهد ، ونقل عن المجتهدين ناقلون ، هل يؤخذ بنقل كل عدل ، أم لا يؤخذ إلا بنقل عارف مجتهد في مذهب من ينقل عنه ؟ هذا موضع الخلاف .

                                                      وقول الإمام : " فتيا غير المجتهد بقول الميت لا يجوز " ، إن أراد روايته ، فهي مقبولة قطعا إذا كان عدلا ، وأما العمل بالمروي ، فإن كان حيا فلا شك في جوازه ، وإن كان ميتا فهي مسألة تقليد الميت . ولا يخفى أن محل هذا إذا كان ناقلا محضا عن نص ، أما إذا كان مخرجا فليس مما نحن فيه ، لأن العامي الصرف لا قدرة له على التخريج ، فلا يمكنه ، فعلى هذا فالخلاف في الناقل المحض ، والذي رجحه الهندي أنه لا يؤخذ إلا بنقل مجتهد في المذهب ، قادر على النظر في المناظرة ، ورجح غيره أنه يؤخذ بنقل كل عدل ، ولا يخفى في أن ذلك عند التعارض في النقل . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية