الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 381 - 384 ] فصل تزوج النصراني نصرانية على ميتة ( وإذا تزوج النصراني نصرانية على ميتة أو على غير مهر وذلك في دينهم [ ص: 385 ] جائز فدخل بها أو طلقها قبل الدخول بها أو مات عنها فليس لها مهر ، وكذلك الحربيان في دار الحرب ) وهذا عند أبي حنيفة وهو قولهما في الحربيين . وأما في الذمية فلها مهر مثلها إن مات عنها أو دخل بها والمتعة إن طلقها قبل الدخول بها . وقال زفر : لها مهر المثل في الحربيين أيضا . له أن الشرع ما شرع ابتغاء النكاح إلا بالمال ، وهذا الشرع وقع عاما فيثبت الحكم على العموم . ولهما أن أهل الحرب غير ملتزمين أحكام الإسلام ، وولاية الإلزام منقطعة لتباين الدار ، بخلاف أهل الذمة لأنهم التزموا أحكامنا فيما يرجع إلى المعاملات كالربا والزنا ، وولاية الإلزام متحققة لاتحاد الدار . ولأبي حنيفة أن أهل الذمة لا يلتزمون أحكامنا في الديانات وفيما يعتقدون خلافه في المعاملات ، وولاية الإلزام بالسيف وبالمحاجة وكل ذلك منقطع عنهم باعتبار عقد الذمة ، فإنا أمرنا بأن نتركهم وما يدينون فصاروا كأهل الحرب ، [ ص: 386 ] بخلاف الزنا لأنه حرام في الأديان كلها ، والربا مستثنى عن عقودهم لقوله عليه الصلاة والسلام { إلا من أربى فليس بيننا وبينه عهد } وقوله في الكتاب أو على غير مهر يحتمل نفي المهر ويحتمل السكوت . وقد قيل : في الميتة والسكوت روايتان ، [ ص: 387 ] والأصح أن الكل على الخلاف .

التالي السابق


( فصل )

لما ذكر مهور المسلمين شرع في ذكر مهور الكفار ( قوله وإذا تزوج نصراني ) المراد إذا تزوج ذمي كتابي أو مجوسي على ميتة أو على غير مهر وذلك في دينهم جائز ودخل بها أو طلقها قبل الدخول أو مات عنها فليس لها مهر ، ولو أسلما أو رفع أحدهما إلينا أو ترافعا وهذا إذا لم يدينوا مهر المثل بالنفي وكذا لو تزوجها على دم ; لأنهم [ ص: 385 ] اتفقوا على عدم المهر وهم يدينونه ، وهذا لأنهم لا يتمولون الميتة حتف أنفها بخلاف الموقوذة ، وكذا في الحربيين ( هذا مذهب أبي حنيفة وبه قالا في الحربيين ) أي لو أسلما أو ترافعا ( أما في الذمية فلها عند هما مهر مثلها إن دخل بها أو مات أحدهما والمتعة إن طلقها قبل الدخول ) لوقوعه في نكاح لا تسمية فيه ، وبهذا قال زفر في الحربيين أيضا ; لأن الشرع لم يشرع ابتغاء النكاح إلا بالمال ، وهذا الشرع وقع عاما فيتناول الكفار بناء على أنهم مخاطبون بالمعاملات والنكاح منها ، غير أنه يصير عبادة بالنية والكافر ليس من أهلها فتمحض معاملة في حقه ( ولهما أن أهل الحرب غير ملتزمين الأحكام ) وليس لنا عليهم ولاية الإلزام للتباين ، بخلاف أهل الذمية فإنهم التزموها في المعاملات ، وولاية الإلزام ثابتة فنعزره إذا زنى وننهاه عن الربا ونحكم بفساده والنكاح منها ، ولذا تجري عليهم أحكامه من لزوم النفقة والعدة وثبوت النسب والتوارث به وثبوت خيار البلوغ وحرمة المطلقة ثلاثا ونكاح المحارم .

وقد يقال من طرف زفر عدم التزامهم وقصور الولاية منا عنهم لا ينفي تحقق الوجوب عليهم لعموم الخطاب ، حتى إذا ترافعا إلينا نقضي عليهما بما لزمهما حال كونهما حربا وإنا إنما أخرنا الوجوب ليظهر عند إمكان إلزامهم أثره .

( قوله ولأبي حنيفة ) حاصله منع المقدمة القائلة إنهم التزموا أحكامنا في المعاملات بل ليسوا ملتزمين [ ص: 386 ] بعقد الذمة ما يعتقدون خلافه منها إلا ما شرط عليهم ولذا لا نمنعهم من بيع الخمر والخنزير ونكاح المحارم ، كذا في بعض كتب الفقه ، وفي بعضها ما ذكرناه من حرمة المحارم عليهم ولا تنافي ، فمحمل أحدهما من تدين بحرمتهن ومحمل الآخر من لا يتدين بحرمتهن كالمجوس فلم يلتزموا ولم نؤمر بإلزامهم بل نتركهم وما يدينون فصار أهل الذمة أولى من أهل الحرب بذلك ; لأن المانع فيهم المنعة الحسية وأمرنا بهدمها ، والمانع في أهل الذمة المنعة الشرعية وأمرنا بتقريرها . بخلاف الربا ; لأنه مستثنى من عقودهم . قال صلى الله عليه وسلم { إلا من أربى فليس بيننا وبينه عهد } روى معناه القاسم بن سلام بسنده في كتاب الأموال عن أبي المليح الهذلي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران فكتب لهم كتابا وساقه ، وفيه : ولا تأكلوا الربا فمن أكل منهم الربا فذمتي منهم بريئة } وفي مصنف ابن أبي شيبة بسنده إلى الشعبي { كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران وهم نصارى أن من بايع منكم بالربا فلا ذمة له } وهو مرسل وهو حجة عندنا . وإذا منعنا من التعرض لهم فيما يدينون قبل الإسلام إلا المستثنى فبعد الإسلام والمرافعة حال بقاء النكاح والمهر ليس شرطا لبقائه .

والذي يقتضيه النظر أن الاستدلال على أن الكفار مخاطبون بالمعاملات إن تم المطلوب لزفر هنا ; لأن الأمر بترك التعرض لهم لذمتهم لا يقتضي سوى أن لا يتعرض لهم ما لم يرضوا بحكمنا أو يسلموا ، وذلك لا يمنع من قيام لزوم المهر شرعا في ذمتهم . وحالة الإسلام وإن كانت حالة البقاء والمهر ليس شرطا فيها ولا حكما لا يمنع القضاء بالتقرر في الذمة أول الوجود لما ارتفع منع الشرع من التعرض لهم .

( قوله وقد قيل في الميتة والسكوت ) عن المهر ( روايتان ) بخلاف نفيه صريحا ، ففي ظاهر الرواية لها مهر المثل . وذكر الكرخي أنه لا فرق على قياس قول أبي حنيفة بين السكوت والنفي . ووجهه ما في المبسوط أن تملك البضع في حقهم كتملك المال في حق المسلمين فلا يجب العوض فيه إلا بالشرط . وجه الظاهر أن النكاح معاوضة ، فما لم ينص على نفي العوض يكون مستحقا لها والميتة كالسكوت ; لأنها ليست مالا عندهم فذكرها [ ص: 387 ] لغو ، وصحح المصنف أن الكل على الخلاف وهو خلاف الظاهر




الخدمات العلمية