الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين

قراءة الجمهور: "فطوعت"؛ والمعنى أن القتل في ذاته مستصعب عظيم على النفوس؛ فردته هذه النفس اللجوجة الأمارة بالسوء طائعا؛ منقادا؛ حتى واقعه صاحب هذه النفس؛ وقرأ الحسن بن أبي الحسن؛ والجراح؛ والحسن بن عمران ؛ وأبو واقد : "فطاوعت"؛ والمعنى: كأن القتل يدعو إلى نفسه؛ بسبب الحقد؛ والحسد الذي أصاب قابيل؛ وكأن النفس تأبى لذلك؛ ويصعب عليها؛ وكل جهة تريد أن تطيعها الأخرى؛ إلى أن تفاقم الأمر؛ وطاوعت النفس القتل فواقعته؛ وروي أنه التمس الغرة في قتله؛ حتى وجده نائما في غنمه؛ فشدخ رأسه بحجر؛ وروي أنه جهل كيف يقتله؛ فجاء إبليس بطائر؛ أو حيوان غيره فجعل يشدخ رأسه بين حجرين؛ ليقتدي به قابيل؛ ففعل؛ وروي أنه لما انصرف قابيل إلى آدم قال له: "أين هابيل؟"؛ قال: لا أدري؛ كأنك وكلتني بحفظه؛ فقال له آدم: "أفعلتها؟ والله إن دمه ليناديني من الأرض؛ اللهم العن أرضا شربت دم هابيل"؛ فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما؛ ثم إن آدم - صلى اللـه عليه وسلم - بقي مائة عام لم يتبسم حتى جاء ملك فقال له: حياك الله يا آدم وبياك؛ فقال آدم: "ما بياك؟"؛ قال: أضحكك؛ فروي أن آدم - عليه السلام - قال حينئذ:


تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح

    تغير كل ذي طعم ولون
... وقل بشاشة الوجه المليح



وكذا هو الشعر؛ بنصب "بشاشة" وكف التنوين.

وروي عن مجاهد أنه قال: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ [ ص: 148 ] إلى يوم القيامة؛ ووجهه إلى الشمس حيثما دارت؛ عليه في الصيف حظيرة من نار؛ وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى: فأصبح من الخاسرين ؛ ومن خسرانه ما روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: "إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب؛ عليه شطر عذابهم"؛ ومن خسرانه ما ثبت وصح عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - أنه قال: "ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها"؛ وذلك أنه أول من سن القتل.

وقوله: "فأصبح"؛ عبارة عن جميع أوقاته؛ أقيم بعض الزمن مقام كله؛ وخص الصباح بذلك؛ لأنه بدء النهار؛ والانبعاث إلى الأمور؛ ومطية النشاط؛ ومنه قول الربيع بن ضبع:


أصبحت لا أحمل السلاح ...      .................



ومنه قول سعد بن أبي وقاص : "ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام"؛ إلى غير ذلك من استعمال العرب؛ كما ذكرناه.

وقوله تعالى: فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه ؛ روي في معناه أن قابيل جعل أخاه في جراب؛ ومشى به يحمله في عنقه مائة عام؛ وقيل: سنة واحدة؛ وقيل: بل أصبح في ثاني يوم قتله يطلب إخفاء أمر أخيه؛ فلم يدر ما يصنع به؛ فبعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت؛ فجعل يبحث في الأرض؛ ويلقي التراب على الغراب الميت؛ وروي أن الله تعالى بعث غرابين فاقتتلا؛ حتى قتل أحدهما الآخر؛ ثم جعل القاتل يبحث ويواري الميت؛ وروي أن الله تعالى إنما بعث غرابا واحدا؛ فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل.

وظاهر هذه الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم؛ ولذلك جهلت سنة المواراة؛ وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق ؛ عن بعض أهل العلم؛ بما في الكتب الأول.

[ ص: 149 ] و"يبحث"؛ معناه: يفتش التراب بمنقاره؛ ويثيره؛ ومن هذا سميت سورة [براءة] "البحوث"؛ لأنها فتشت عن المنافقين؛ ومن ذلك قول الشاعر:


إن الناس غطوني تغطيت عنهم ...     وإن بحثوني كان فيهم مباحث



وفي مثل: "لا تكن كالباحث عن الشفرة".

والضمير في قوله: سوأة أخيه ؛ يحتمل أن يعود على قابيل؛ ويراد بالأخ هابيل؛ ويحتمل أن يعود على الغراب الباحث؛ ويراد بالأخ الغراب الميت؛ والأول أشهر في التأويل؛ والسوأة: العورة؛ وخصت بالذكر - مع أن المراد مواراة جميع الجسد - للاهتمام بها؛ ولأن سترها أوكد؛ ويحتمل أن يراد بالسوأة هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها؛ وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة؛ لا على جهة الغض منه؛ بل الغض لاحق للقاتل؛ وهو الذي أتى بالسوأة؛ وقرأ الجمهور: "فأواري"؛ بنصب الياء؛ وقرأ طلحة بن مصرف ؛ والفياض بن غزوان: "فأواري"؛ بسكون الياء؛ وهي لغة لتوالي الحركات.

ولما رأى قابيل فعل الغراب تنبه على ما يجب أن يصنع بأخيه؛ ورأى قصور نفسه؛ وجهل البشر بالأمور؛ فقال: يا ويلتا أعجزت ؛ الآية؛ واحتقر نفسه؛ ولذلك ندم؛ وقرأ الجمهور: "يا ويلتى"؛ والأصل: "يا ويلتي"؛ لكن من العرب من يبدل من الياء ألفا؛ ويفتح الياء لذلك فيقولون: "يا ويلتى"؛ و"يا غلاما"؛ ويقف بعضهم على هاء السكت؛ [ ص: 150 ] فيقول: "يا ويلتاه"؛ وقرأ الحسن بن أبي الحسن: "يا ويلتي".

ونداء الويلة هو على معنى: "احضري؛ فهذا أوانك"؛ وهذا هو الباب في قوله: "يا حسرة"؛ وفي قولهم: "يا عجبا"؛ وما جرى مجراه من نداء هذه الأمور التي لا تعقل؛ وهي معان: وقرأ الجمهور: "أعجزت"؛ بفتح الجيم؛ وقرأ ابن مسعود ؛ والحسن ؛ والفياض؛ وطلحة بن سليمان: "أعجزت"؛ بكسر الجيم؛ وهي لغة.

ثم إن قابيل وارى أخاه؛ وندم على ما كان منه من معصية الله في قتله؛ حيث لا ينفعه الندم؛ واختلف العلماء في قابيل؛ هل هو من الكفار؛ أو من العصاة؟ والظاهر أنه من العصاة؛ وروي عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - أنه قال: "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا؛ فخذوا من خيرهما؛ ودعوا الشر".

التالي السابق


الخدمات العلمية