الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون

ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ؛ [ ص: 229 ] أي أنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي؛ وإن نهى منهم ناه فعن غير جد؛ بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته؛ وروى ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -: "إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على ذنب نهاه عنه تعزيرا؛ فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون خليطه وأكيله؛ فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض؛ ولعنهم على لسان نبيهم داود؛ وعيسى - عليهما السلام"؛ قال ابن مسعود : وكان رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - متكئا فجلس؛ وقال: "لا والله حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه؛ ونهى بمعروف؛ وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين؛ فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه؛ ففرض عليه الإنكار بقلبه؛ وألا يخالط ذا المنكر.

وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليما من المعصية؛ بل ينهى العصاة بعضهم بعضا؛ وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا؛ واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية؛ لأن قوله: "يتناهون"؛ و"فعلوه"؛ يقتضي اشتراكهم في الفعل؛ وذمهم على ترك التناهي.

وقوله تعالى: لبئس ما كانوا يفعلون ؛ اللام لام قسم؛ وجعل الزجاج "ما" مصدرية؛ وقال: التقدير: "لبئس شيئا فعلهم".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وفي هذا نظر؛ وقال غيره: "ما" نكرة موصوفة؛ التقدير: "لبئس الشيء الذي كانوا يفعلون فعلا".

وقوله تعالى لمحمد - صلى اللـه عليه وسلم -: ترى كثيرا ؛ يحتمل أن يكون رؤية قلب؛ وعلى هذا فيحتمل أن يريد: من الأسلاف المذكورين؛ أي: "ترى الآن إذا خبرناك"؛ ويحتمل [ ص: 230 ] أن يريد: من معاصري محمد - صلى اللـه عليه وسلم -؛ لأنه كان يرى ذلك من أمورهم؛ ودلائل حالهم؛ ويحتمل أن تكون رؤية عين؛ فلا يريد إلا معاصري محمد - صلى اللـه عليه وسلم.

وقوله تعالى: لبئس ما قدمت لهم أنفسهم ؛ أي: قدمته للآخرة واجترحته؛ ثم فسر ذلك قوله تعالى: أن سخط الله عليهم ؛ فإن "سخط"؛ في موضع بدل من "ما"؛ ويحتمل أن يكون التقدير: "هو أن سخط الله عليهم"؛ وقال الزجاج : "أن"؛ في موضع نصب على تقدير: "بأن سخط الله عليهم".

وقوله تعالى: "والنبي" - إن كان المراد الأسلاف - فالنبي داود؛ وعيسى - عليهما السلام -؛ وإن كان المراد معاصري محمد فالنبي محمد - عليه الصلاة والسلام -؛ و "الذين كفروا"؛ هم عبدة الأوثان؛ وخص الكثير منهم بالفسق؛ إذ فيهم قليل قد آمن.

وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى: ترى كثيرا منهم ؛ كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل؛ وأنه يعنى به المنافقون؛ وقال مجاهد - رحمه الله -: ولو كانوا يؤمنون ؛ الآية؛ يعنى بها المنافقون.

التالي السابق


الخدمات العلمية