الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام

الخطاب لجميع المؤمنين؛ وهذا النهي هو الابتلاء الذي أعلم به قوله قبل: "ليبلونكم"؛ والصيد مصدر عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد؛ ولفظ [ ص: 254 ] الصيد هنا عام؛ ومعناه الخصوص؛ فيما عدا الحيوان الذي أباح رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - قتله في الحرم؛ ثبت عنه - صلى اللـه عليه وسلم - أنه قال: "خمس فواسق يقتلن في الحرم: الغراب؛ والحدأة؛ والفأرة؛ والعقرب؛ والكلب العقور"؛ ووقف مع ظاهر هذا الحديث سفيان الثوري ؛ والشافعي ؛ وأحمد بن حنبل ؛ وإسحاق بن راهويه ؛ فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ما ذكر؛ وقاس؛ مالك - رحمه الله - على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وعقرهم؛ ورآه داخلا في اللفظ؛ فقال: للمحرم أن يقتل الأسد؛ والنمر؛ والفهد؛ والذئب؛ وكل السباع العادية؛ مبتدئا بها؛ فأما الهر؛ والثعلب؛ والضبع فلا يقتلها المحرم؛ وإن قتلها فدى؛ وقال أصحاب الرأي: إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله؛ وإن ابتدأه المحرم فعليه قيمته؛ وقال مجاهد ؛ والنخعي : لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا عليه؛ وقال ابن عمر : ما حل بك من السباع فحل به؛ وأما فراخ السبع الصغار قبل أن تفرس؛ فقال مالك في "المدونة": لا ينبغي للمحرم قتلها؛ قال أشهب في كتاب "محمد": فإن فعل فعليه الجزاء؛ وقال أيضا أشهب؛ وابن القاسم : لا جزاء عليه؛ وثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أمر المحرمين بقتل الحيات؛ وأجمع الناس على إباحة قتلها؛ وثبت عن عمر - رضي الله عنه - إباحة قتل الزنبور؛ لأنه في حكم العقرب؛ وقال مالك : يطعم قاتله شيئا؛ وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث؛ والذباب؛ والنمل؛ ونحوه؛ وقال أصحاب الرأي: لا شيء على قاتل هذه كلها؛ وأما سباع الطير فقال مالك : لا يقتلها المحرم؛ وإن فعل فدى؛ وقال ابن القاسم في كتاب "محمد": وأحب إلي ألا يقتل الغراب؛ والحدأة؛ حتى يؤذياه؛ ولكن إن فعل فلا شيء عليه.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وذوات السموم كلها في حكم الحية؛ كالأفعى؛ والرتيلا؛ وما عدا ما ذكرناه فهو مما نهى الله عن قتله في الحرمة بالبلد؛ أو بالحال؛ وفرض الجزاء على من قتله.

[ ص: 255 ] و"حرم": جمع "حرام"؛ وهو الذي يدخل في الحرم؛ أو في الإحرام؛ وحرام؛ يقال للذكر؛ والأنثى؛ والاثنين؛ والجمع.

واختلف العلماء في معنى قوله: "متعمدا"؛ فقال مجاهد ؛ وابن جريج ؛ والحسن ؛ وابن زيد : معناه: متعمدا لقتله؛ ناسيا لإحرامه؛ فهذا هو الذي يكفر؛ وكذلك الخطأ المحض يكفر؛ وأما إن قتله متعمدا؛ ذاكرا لإحرامه؛ فهذا أجل وأعظم من أن يكفر؛ وقال مجاهد : قد حل؛ ولا رخصة له؛ وقاله ابن جريج ؛ وحكى المهدوي وغيره أنه بطل حجه؛ وقال ابن زيد : هذا يوكل إلى نقمة الله. وقال جماعة من أهل العلم - منهم ابن عباس ؛ وعطاء ؛ وسعيد بن جبير ؛ والزهري ؛ وطاوس ؛ وغيرهم -: المتعمد هو القاصد للقتل؛ الذاكر لإحرامه؛ وهو يكفر؛ وكذلك الناسي والقاتل خطأ يكفران؛ قال الزهري : نزل القرآن بالعمد؛ وجرت السنة في قتله خطأ أنهما يكفران؛ وقال بعض الناس: لا يلزم القاتل خطأ كفارة.

وقرأ ابن كثير ؛ ونافع ؛ وأبو عمرو ؛ وابن عامر : "فجزاء مثل ما"؛ بإضافة الجزاء إلى "مثل"؛ وخفض "مثل"؛ وقرأ حمزة ؛ والكسائي ؛ وعاصم : "فجزاء"؛ بالرفع؛ "مثل"؛ بالرفع أيضا؛ فأما القراءة الأولى؛ ومعناها: "فعليه جزاء مثل ما قتل؛ أي قضاؤه؛ وغرمه"؛ ودخلت لفظة "مثل" هنا كما تقول: "أنا أكرم مثلك"؛ وأنت تقصد بقولك: "أنا أكرمك"؛ ونظير هذا قوله تعالى: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ؛ التقدير: "كمن هو في الظلمات".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويحتمل قوله تعالى: "فجزاء مثل"؛ أن يكون المعنى: "فعليه أن يجزي مثل ما"؛ ثم وقعت الإضافة إلى المثل؛ الذي يجزى به؛ اتساعا.

وأما القراءة الثانية فمعناها: "فالواجب عليه"؛ أو: "فاللازم له جزاء مثل ما"؛ و"مثل"؛ على هذه القراءة؛ صفة لـ "جزاء"؛ أي: "فجزاء مماثل".

وقوله تعالى: "من النعم"؛ صفة لـ "جزاء"؛ على القراءتين كلتيهما؛ وقرأ عبد الله بن مسعود : "فجزاؤه مثل ما"؛ بإظهار هاء؛ يحتمل أن تعود على الصيد؛ [ ص: 256 ] أو على الصائد القاتل؛ وقرأ أبو عبد الرحمن : "فجزاء"؛ بالرفع؛ والتنوين؛ "مثل ما"؛ بالنصب؛ وقال أبو الفتح: "مثل"؛ منصوبة بنفس الجزاء؛ أي: "فعليه أن يجزي مثل ما قتل".

واختلف العلماء في هذه المماثلة: كيف تكون؟ فذهب الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتول في الخلقة؛ وعظم المرأى؛ [فيجعلان] ذلك من النعم جزاءه؛ قال الضحاك بن مزاحم ؛ والسدي ؛ وجماعة من الفقهاء: في النعامة؛ وحمار الوحش؛ ونحوه بدنة؛ وفي الوعل؛ والإبل؛ ونحوه بقرة؛ وفي الظبي؛ ونحوه كبش؛ وفي الأرنب ونحوه ثنية من الغنم؛ وفي اليربوع حمل صغير؛ وما كان من جرادة؛ ونحوها؛ ففيها قبضة طعام؛ وما كان من طير فيقوم ثمنها طعاما؛ فإن شاء تصدق به؛ وإن شاء صام لكل صاع يوما؛ وإن أصاب بيض نعام فإنه يحمل الفحل على عدد ما أصاب من بكارة الإبل؛ فما نتج منها أهداه إلى البيت؛ وما فسد منها فلا شيء عليه فيه.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: حكم عمر - رضي الله عنه - على قبيصة بن جابر في الظبي بشاة؛ وحكم هو وعبد الرحمن بن عوف ؛ قال قبيصة : فقلت له: يا أمير المؤمنين ؛ إن أمره أهون من أن تدعو من يحكم معك؛ قال: فضربني بالدرة حتى سابقته عدوا؛ ثم قال: أقتلت الصيد وأنت محرم ثم تغمض الفتوى؟ وهذه القصة في "الموطأ"؛ بغير هذه الألفاظ؛ وكذلك روي أنها نزلت بصاحب لقبيصة؛ وقبيصة هو راويها فيهما؛ والله أعلم؛ وأما الأرنب؛ واليربوع؛ ونحوها فالحكم فيه عند مالك أن يقوم طعاما؛ فإن شاء تصدق به؛ وإن شاء صام بدل كل مد يوما؛ وكذلك عنده الصيام في كفارة الجزاء إنما هو كله يوم بدل مد؛ وعند قوم: بدل صاع؛ وعند قوم: بدل مدين؛ وفي حمام الحرم عند مالك شاة في الحمامة؛ وفي الحمام غيره حكومة؛ وليس كحمام الحرم؛ وأما بيض النعام؛ وسائر الطير؛ ففي البيضة عند مالك عشر ثمن أمه؛ قال ابن القاسم : وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن؛ ما لم يستهل الفرخ صارخا بعد الكسر؛ فإن استهل ففيه الجزاء كاملا؛ كجزاء كبير ذلك [ ص: 257 ] الطير؛ قال ابن المواز: بحكومة عدلين؛ وقال ابن وهب : إن كان في بيضة النعامة؛ فما دونها؛ فرخ؛ فعشر ثمن أمه؛ وإن لم يكن؛ فصيام يوم؛ أو مد لكل مسكين.

وذهبت فرقة من أهل العلم - منهم النخعي ؛ وغيره - إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة؛ يقوم الصيد المقتول؛ ثم يشترى بقيمته نده من النعم؛ ثم يهدى؛ ورد الطبري وغيره على هذا القول.

والنعم: لفظ يقع على الإبل؛ والبقر؛ والغنم؛ إذا اجتمعت هذه الأصناف؛ فإذا انفرد كل صنف لم يقل "نعم"؛ إلا للإبل وحدها؛ وقرأ الحسن: "من النعم"؛ بسكون العين؛ وهي لغة؛ والجزاء إنما يجب بقتل الصيد؛ لا بنفس أخذه؛ بحكم لفظ الآية؛ وذلك في "المدونة"؛ ظاهر من مسألة الذي اصطاد طائرا؛ فنتف ريشه؛ ثم حبسه حتى نسل ريشه؛ فطار؛ قال: لا جزاء عليه؛ وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين؛ عالمين بحكم النازلة؛ وبالتقدير فيها؛ وحكم عمر ؛ وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما -؛ وأمر أبا جرير البجلي أن يأتي رجلين من العدول ليحكما عليه في عنز من الظباء أصابها؛ قال: فأتيت عبد الرحمن ؛ وسعدا؛ فحكما علي تيسا أعفر؛ ودعا ابن عمر ابن صفوان ليحكم معه في جزاء؛ وعلى هذا جمهور الناس؛ وفقهاء الأمصار.

وقال ابن وهب - رحمه الله - في "العتبية": من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد؛ كما خيره الله ؛ في أن يخرج هديا بالغ الكعبة؛ أو كفارة؛ طعام مساكين؛ أو عدل ذلك صياما؛ فإن اختار الهدي؛ حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب؛ ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك؛ شاة؛ لأنها أدنى الهدي؛ فما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام؛ ثم خير في أن يطعمه؛ أو يصوم مكان كل مد يوما؛ وكذلك قال مالك في "المدونة": إذا أراد المصيب أن يطعم؛ أو يصوم؛ وإن كان لما أصاب نظير من النعم؛ فإنه يقوم صيده طعاما؛ لا دراهم؛ قال: وإن قوموه دراهم واشتري بها طعام لرجوت أن يكون واسعا؛ والأول [ ص: 258 ] أصوب؛ فإن شاء أطعمه؛ وإلا صام مكانه لكل مد يوما؛ وإن زاد ذلك على شهرين؛ أو ثلاثة.

وقال يحيى بن عمر ؛ من أصحابنا: إنما يقال: كم من رجل يشبع من هذا الصيد؟ فيعرف العدد؛ ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد؟ فإن شاء أخرج ذلك الطعام؛ وإن شاء صام عدد أمداده.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا قول حسن؛ احتاط فيه؛ لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة؛ فبهذا النظر يكثر الطعام؛ ومن أهل العلم من يرى ألا يتجاوز في صيام الجزاء شهران؛ قالوا: لأنها أعلى الكفارات بالصيام.

وقوله تعالى: هديا بالغ الكعبة ؛ يقتضي هذا اللفظ أن يشخص بهذا الهدي حتى يبلغ؛ وذكرت الكعبة لأنها أم الحرم؛ ورأس الحرمة؛ والحرم كله منحر لهذا الهدي؛ فما وقف به بعرفة من هذا الجزاء فينحر بمنى؛ وما لم يوقف به فينحر بمكة؛ وفي سائر بقاع الحرم؛ بشرط أن يدخل من الحل؛ لا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم؛ حتى يكون بالغا الكعبة.

وقرأ عبد الرحمن الأعرج : "هديا بالغ الكعبة"؛ بكسر الدال؛ وتشديد الياء.

و"هديا" نصب على الحال من الضمير في "به"؛ وقيل: على المصدر؛ و"بالغ"؛ نكرة في الحقيقة؛ لم تزل الإضافة عنه الشياع؛ فتقديره: "بالغا الكعبة"؛ حذف تنوينه تخفيفا.

وقرأ ابن كثير ؛ وعاصم ؛ وأبو عمرو ؛ وحمزة ؛ والكسائي : "أو كفارة"؛ منونا؛ "طعام مساكين"؛ برفع "طعام"؛ وإضافته إلى جمع المساكين؛ وقرأ نافع ؛ وابن عامر برفع الكفارة؛ دون تنوين؛ وخفض الطعام؛ على الإضافة؛ و"مساكين"؛ بالجمع؛ قال أبو علي : إعراب "طعام"؛ في قراءة من رفعه؛ أنه عطف بيان؛ لأن الطعام هو الكفارة؛ ولم يضف الكفارة لأنها ليست للطعام؛ إنما هي لقتل الصيد.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا الكلام كله مبني على أن الكفارة هي الطعام؛ وفي هذا نظر؛ لأن الكفارة هي تغطية الذنب بإعطاء الطعام؛ فالكفارة غير الطعام؛ لكنها به؛ فيتجه في رفع الطعام البدل [ ص: 259 ] المحض؛ وتتجه قراءة من أضاف الكفارة إلى الطعام على أنها إضافة تخصيص؛ إذ كفارة هذا القتل قد تكون كفارة هدي؛ أو كفارة طعام؛ أو كفارة صيام.

وقرأ الأعرج ؛ وعيسى بن عمر : "أو كفارة"؛ بالرفع؛ والتنوين؛ "طعام"؛ بالرفع دون تنوين؛ "مسكين"؛ على الإفراد؛ وهو اسم جنس.

وقال مالك - رحمه الله - وجماعة من العلماء: القاتل مخير في الرتب الثلاثة؛ وإن كان غنيا؛ وهذا عندهم مقتضى "أو"؛ وقال ابن عباس ؛ وجماعة: لا ينتقل المكفر من الهدي إلى الطعام إلا إذا لم يجد هديا؛ وكذلك لا يصوم إلا إذا لم يجد ما يطعم؛ وقاله إبراهيم النخعي ؛ وحماد بن أبي سليمان ؛ قالوا: والمعنى: أو كفارة طعام إن لم يجد الهدي.

ومالك - رحمه الله -؛ وجماعة معه؛ يرى أن المقوم إنما هو الصيد المقتول؛ يقوم بالطعام؛ كما تقدم؛ وقال العراقيون: إنما يقوم الجزاء طعاما؛ فمن قتل ظبيا قوم الظبي؛ عند مالك ؛ وقوم عدله من الكباش؛ أو غير ذلك؛ عند أبي حنيفة وغيره. وحكى الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم؛ فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به؛ وإن لم يجد قوم الجزاء دراهم؛ ثم قومت الدراهم حنطة؛ ثم صام مكان كل نصف صاع يوما؛ قال: وإنما أريد بذكر الطعام تبيين أمر الصوم؛ ومن يجد طعاما فإنما يجد جزاء؛ وأسنده أيضا عن السدي .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويعترض هذا القول بظاهر لفظ الآية؛ فإنه ينافره؛ والهدي لا يكون إلا في الحرم؛ كما ذكرنا قبل.

واختلف الناس في الطعام؛ فقال جماعة من العلماء: الإطعام؛ والصيام؛ حيث شاء المكفر من البلاد؛ وقال عطاء بن أبي رباح ؛ وغيره: الهدي والإطعام بمكة؛ والصوم حيث شئت.

[ ص: 260 ] وقوله تعالى: أو عدل ذلك صياما ؛ قرأ الجمهور بفتح العين؛ ومعناه: نظير الشيء؛ بالموازنة؛ والمقدار المعنوي؛ وقرأ ابن عباس ؛ وطلحة بن مصرف ؛ والجحدري: "أو عدل"؛ بكسر العين؛ قال أبو عمرو الداني : ورواه ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم.

وقال بعض الناس: "العدل" - بالفتح -: قدر الشيء من غير جنسه؛ و"عدله" - بالكسر - قدره من جنسه؛ نسبها مكي إلى الكسائي ؛ وهو وهم؛ والصحيح عن الكسائي أنهما لغتان في المثل؛ وهذه المنسوبة عبارة معترضة؛ وإنما مقصد قائلها أن "العدل"؛ بالكسر؛ قدر الشيء موازنة على الحقيقة؛ كعدلي البعير؛ و"عدله": قدره من شيء آخر؛ موازنة معنوية؛ كما يقال في ثمن فرس: هذا عدله من الذهب؛ ولا يتجه هنا كسر العين فيما حفظت.

والإشارة بـ "ذلك"؛ في قوله: "أو عدل ذلك"؛ يحتمل أن تكون إلى الطعام؛ وعلى هذا انبنى قول من قال من الفقهاء: الأيام التي تصام هي على عدد الأمداد؛ أو الأصواع؛ أو أنصافها؛ حسب الخلاف الذي قد ذكرته؛ في ذلك؛ ويحتم أن تكون الإشارة بـ "ذلك"؛ إلى الصيد المقتول؛ وعلى هذا انبنى قول من قال من العلماء: الصوم في قتل الصيد إنما هو على قدر المقتول؛ وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن قتل المحرم ظبيا فعليه شاة تذبح بمكة؛ فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين؛ فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام؛ وإن قتل أيلا فعليه بقرة؛ فإن لم يجد فإطعام عشرين مسكينا؛ فإن لم يجد صام عشرين يوما؛ وإن قتل نعامة؛ أو حمار وحش؛ فعليه بدنة؛ فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا؛ فإن لم يجد صام ثلاثين يوما.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقد تقدم لابن عباس - رضي الله عنهما - قول غير هذا آنفا؛ حكاهما عنه الطبري مسندين؛ ولا ينكر أن يكون له في هيئة التكفير قولان.

وقال سعيد بن جبير - في تفسير قوله تعالى: أو عدل ذلك صياما -؛ قال: يصوم ثلاثة أيام؛ إلى عشرة.

وقوله تعالى: ليذوق وبال أمره ؛ الذوق هنا مستعار؛ كما قال تعالى: ذق إنك أنت العزيز الكريم ؛ وكما قال: فأذاقها الله لباس الجوع ؛ وكما قال أبو [ ص: 261 ] سفيان : "ذق عقق"؛ وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان؛ وهي في هذا كله مستعارة فيما بوشر بالنفس؛ والوبال: سوء العاقبة؛ والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله؛ وعبر بـ "أمره"؛ عن جميع حاله؛ من قتل؛ وتكفير؛ وحكم عليه؛ ومضي ماله؛ أو تعبه بالصيام.

واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: عفا الله عما سلف ؛ فقال عطاء بن أبي رباح ؛ وجماعة معه: معناه: "عفا الله عما سلف في جاهليتكم؛ من قتلكم الصيد في الحرمة؛ ومن عاد الآن في الإسلام؛ فإن كان مستحلا؛ فينتقم الله منه في الآخرة؛ ويكفر في ظاهر الحكم؛ وإن كان عاصيا فالنقمة هي في إلزام الكفارة فقط"؛ قالوا: وكلما عاد المحرم فهو مكفر.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير؛ وهذا هو قول الفقهاء؛ مالك ونظائره؛ وأصحابه - رحمهم الله -؛ وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: المحرم إذا قتل مرارا ناسيا لإحرامه؛ فإنه يكفر في كل مرة؛ فأما المتعمد العالم بإحرامه؛ فإنه يكفر أول مرة؛ وعفا الله عن ذنبه مع التكفير؛ فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه؛ ويقال له: ينتقم الله منك؛ كما قال الله ؛ وقال بهذا القول شريح القاضي ؛ وإبراهيم النخعي ؛ ومجاهد . وقال سعيد بن جبير : رخص في قتل الصيد مرة؛ فمن عاد لم يدعه الله حتى ينتقم منه.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا القول منه - رضي الله عنه - وعظ بالآية؛ وهو - مع ذلك - يرى أن يحكم عليه في العودة؛ ويكفر؛ لكنه خشي - مع ذلك - بقاء النقمة.

[ ص: 262 ] وقال ابن زيد : معنى الآية: عفا الله عما سلف ؛ لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي؛ والتحريم؛ قال: وأما من عاد فقتل الصيد وهو عالم بالحرمة متعمد للقتل؛ فهذا لا يحكم عليه؛ وهو موكول إلى نقمة الله ؛ ومعنى قوله: "متعمدا" في صدر الآية أي: متعمدا للقتل؛ ناسيا للحرمة.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقد تقدم ذكر هذا الفصل.

قال الطبري : وقال قوم: هذه الآية مخصوصة في شخص بعينه؛ وأسند إلى زيد بن المعلى أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز له عنه؛ ثم عاد؛ فأرسل الله عليه نارا فأحرقته؛ فذلك قوله تعالى: ومن عاد فينتقم الله منه .

وقوله تعالى: والله عزيز ذو انتقام ؛ تنبيه على صفتين؛ يقتضي خوف من له بصيرة؛ ومن خاف ازدجر؛ ومن هذا المعنى قول النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "من خاف أدلج؛ ومن أدلج بلغ المنزل".

التالي السابق


الخدمات العلمية