الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 431 ] قوله - عز وجل -:

وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل

"جعلوا"؛ بمعنى: "صيروا"؛ و"الجن"؛ مفعول؛ و"شركاء"؛ مفعول ثان مقدم؛ ويصح أن يكون قوله تعالى "شركاء"؛ مفعولا أول؛ و"لله"؛ في موضع المفعول الثاني؛ و"الجن"؛ بدل من قوله سبحانه: "شركاء"؛ وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله - عز وجل -؛ والقائلين: إن الجن تعلم الغيب؛ العابدين للجن؛ وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك؛ وتستجير بجن الأودية في أسفارها؛ ونحو هذا.

أما الذين خرقوا البنين فاليهود؛ في ذكر عزير؛ والنصارى؛ في ذكر المسيح - عليه السلام -؛ وأما ذاكرو البنات فالعرب الذين قالوا للملائكة: بنات الله تعالى ؛ فكأن الضمير في "جعلوا"؛ و"خرقوا"؛ لجميع الكفار؛ إذ فعل بعضهم هذا؛ وبعضهم هذا؛ وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد ؛ وقرأ شعيب بن أبي حمزة : "شركاء الجن"؛ بخفض النون؛ وقرأ يزيد بن قطيب؛ وأبو حيوة "الجن"؛ و"الجن"؛ بالخفض؛ والرفع؛ على تقدير: "هم الجن".

وقرأ الجمهور: "وخلقهم"؛ بفتح اللام؛ على معنى: "وهو خلقهم"؛ وفي مصحف عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "وهو خلقهم"؛ والضمير في "وخلقهم"؛ يحتمل العودة على الجاعلين؛ ويحتملها على المجعولين؛ وقرأ يحيى بن يعمر : "وخلقهم"؛ بسكون اللام؛ عطفا على "الجن"؛ أي: "جعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصناما شركاء لله تعالى .

وقرأ السبعة - سوى نافع -: "وخرقوا"؛ بتخفيف الراء؛ وهو بمعنى: "اختلقوا وافتروا"؛ وقرأ نافع : "وخرقوا"؛ بتشديد الراء؛ على المبالغة؛ وقرأ ابن عمر ؛ وابن عباس - رضي الله عنهما -: "وحرفوا"؛ من "التحريف"؛ كذا قال أبو الفتح؛ قال أبو عمرو الداني : قرأ ابن عباس : "حرفوا"؛ خفيفة الراء؛ وابن عمر "حرفوا"؛ مشددة الراء.

[ ص: 432 ] وقوله تعالى "بغير علم"؛ نص على قبح تقحمهم المجهلة؛ وافترائهم الباطل على عمى؛ "سبحانه"؛ أي: "تنزه عن وصفهم الفاسد المستحيل عليه - تبارك وتعالى -؛ و"بديع"؛ بمعنى: "مبدع؛ ومخترع؛ وخالق"؛ فهو بناء اسم فاعل؛ كما جاء "سميع"؛ بمعنى "مسمع"؛ و"أنى"؛ بمعنى: "كيف؟"؛ و"من أين؟"؛ فهي استفهام في معنى التوقيف والتقرير.

وقرأ جمهور الناس: "ولم تكن"؛ بالتاء؛ على تأنيث علامة الفعل؛ وقرأ إبراهيم النخعي بالياء؛ على تذكيرها؛ وتذكير "كان"؛ وأخواتها؛ مع تأنيث اسمها؛ أسهل من ذلك في سائر الأفعال؛ فقولك: "كان في الدار هند"؛ أسوغ من: "قام في الدار هند"؛ وحسن القراءة الفصل بالظرف؛ الذي هو الخبر؛ ويتجه في القراءة المذكورة أن يكون في "يكن"؛ ضمير اسم الله - تبارك وتعالى -؛ وتكون الجملة - التي هي "له صاحبة" - خبر "كان"؛ ويتجه أن يكون في "يكن"؛ ضمير أمر وشأن؛ وتكون الجملة بعد تفسيرا له؛ وخبرا؛ وهذه الآية رد على الكفار؛ بقياس الغائب على الشاهد.

وقوله تعالى وخلق كل شيء ؛ لفظ عام لكل ما يجوز أن يدخل تحته؛ ولا يجوز أن يدخل تحته صفات الله تعالى وكلامه؛ فليس هو عموما مخصصا؛ على ما ذهب إليه قوم؛ لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئا؛ ثم يخرجه التخصيص؛ وهذا لم يتناول قط هذه التي ذكرناها؛ وإنما هذا بمنزلة قول الإنسان: "قتلت كل فارس؛ وأفحمت كل خصم"؛ فلم يدخل القائل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه؛ وأما قوله - سبحانه -: وهو بكل شيء عليم ؛ فهذا عموم على الإطلاق؛ ولأن الله - عز وجل - يعلم كل شيء؛ لا رب غيره؛ ولا معبود سواه.

ولما تقررت الحجج وبانت الوحدانية؛ جاء قوله تعالى ذلكم الله ربكم ؛ الآية؛ يتضمن تقريرا؛ وحكما؛ إخلاصا؛ وأمرا بالعبادة؛ وإعلاما بأنه حفيظ رقيب على كل فعل وقول؛ وفي هذا الإعلام تخويف؛ وتحذير.

التالي السابق


الخدمات العلمية