الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 125 ] في ذكر تعارض ما يخل بالفهم وهي عشرة : منها ما يرجع لعوارض الألفاظ . وهي خمسة : المجاز والاشتراك والنقل والإضمار والتخصيص . ومنها : ما يرجع لغير ذلك إما للحكم كالنسخ أو للتركيب كالتقديم والتأخير أو للواقع كالمعارض العقلي أو للغة كتغيير الإعراب ، وإنما تعرضوا للخمسة السابقة فقط لرجوعها إلى اللفظ واحتجوا على الحصر بأنه إذا انتقى احتمال الاشتراك والنقل ، كان اللفظ حقيقة في معنى واحد ، وإذا انتفى احتمال الإضمار كان المراد منه مدلول اللفظ ، وإذا انتفى احتمال المجاز كان المراد منه مدلوله الحقيقي ، وإذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد منه جميع ما وضع له بطريق الحقيقة وحينئذ لم يبق خلل في الفهم ألبتة .

                                                      وأورد على الحصر أمور : أحدها : احتمال النسخ ، فإن السامع إذا جوز على حكم اللفظ أنه منسوخ فلا يجزم بثبوته . الثاني : احتمال التقييد . الثالث : احتمال الاقتضاء ، فإن قوله عليه السلام { رفع عن أمتي } لما علم أن كلا منهما غير مرفوع لوقوعه في الأمة فلا بد وأن [ ص: 126 ] يكون مراده عليه السلام شيئا آخر لئلا يلزم كذبه ، وهو غير معلوم من ظاهر الكلام ، فقد نشأ الخلاف في فهم مراد المتكلم من غير الاحتمالات الخمسة . وأجيب عن الأول بأن النسخ داخل في التخصيص ، وقد صرح بذلك الإمام ، وفيه نظر ; لأنه لا عموم في الأزمان ، والأمر لا يقتضي بصيغته فعل المأمور أبدا . والحق في الجواب أن النسخ من عوارض الأحكام لا الألفاظ . فإن قيل : قد تنسخ التلاوة وليست معنى . قلنا : نسخها أيضا عدم جواز تلاوة ذلك المنسوخ . قاله الأصفهاني . وعن الثاني بأنه قريب من التخصيص ، وعن الثالث بأن الاقتضاء راجع للإضمار على رأي جمع من الأصوليين منهم أبو زيد الدبوسي ; لأن كلا منهما عبارة عن إسقاط شيء من الكلام لا يتم الكلام بدونه نظرا إلى العقل أو الشرع أو إليهما لا نظرا إلى اللفظ . فأما من قال : إنه مغاير للإضمار فنقول : إن الخلل الناشئ من احتمال الاقتضاء ، مثله الناشئ من احتمال الإضمار ، فكان ذكره مغنيا عن ذلك . وعند التحقيق فالعوارض المخلة بالفهم ترجع إلى احتمال الاشتراك والمجاز ، ولهذا اقتصر ابن الحاجب وغيره على ذكرها ; لأن النقل والإضمار والتخصيص يرجع للمجاز ، فإن المجاز يكون بالنقصان ، والعام إذا خص يكون مجازا في الباقي على الصحيح . فإذن المراد بالمجاز الأعم من ذلك لا المقابل للإضمار والتخصيص ، فإن كان الكلام في هذه المحتملة من حيث الجنس فلا حاجة لذكر الإضمار والتخصيص ; لأنهما من أنواع المجاز فيندرجان تحت مطلقه . وعلى هذا فالأحوال ثلاثة ، وإن كان الكلام فيها من حيث النوع فلا شك أن أنواع المجاز لا تنحصر في خمسة .

                                                      [ ص: 127 ] وأجيب بأن المراد التوسع ، واقتصر على هذين من بين سائر الأنواع لغلبتهما في الكلام على أنه سبق خلاف في أن الإضمار ليس بمجاز ، والتخصيص أيضا كذلك ، فإنه فعل المخصص وليس بلفظ حتى يحكم عليه بالحقيقة والمجاز . وقد أورد على موضع المسألة شيئان : أحدهما : أن هذه الاحتمالات ليس شيء منها مخلا بالفهم ; لأن الظن حاصل مع تجويزها ، إنما الممتنع القطع . وأجيب بأن المقصود أن كل واحد منها مخل بالفهم على تقدير إرادته مع عدم القرينة كإرادة المجاز مع عدمها ، فإنه يخل بالفهم ويوقع في الحقيقة . والثاني : أن الإضمار والتخصيص نوعان من أنواع المجاز فكيف جعلهما مقابلين له ؟ وأجيب بأن المراد التوسع واقتصر على هذين من بين سائر الأنواع لغلبتهما في الكلام على أنه سبق خلاف في أن الإضمار ليس بمجاز ، والتخصيص أيضا كذلك ، فإنه فعل المخصص ، وليس بلفظ حتى يحكم عليه بالحقيقة أو المجاز ، ثم التعارض الذي يتصور وقوعه بين هذه الاحتمالات الخمسة يقع على عشرة أوجه ، وهذه ; لأن التعارض لا يتصور إلا بين الشيئين ; لأن الشيء لا يعارض نفسه فكل واحد من هذه الاحتمالات الخمسة إنما يعارض الأربعة الأخيرة فيها فتضرب الخمسة في الأربعة فحصل عشرون وجها من التعارض ، لكن العدة مكررة فيجب حذفها بنفي عشرة تكرر بعبارة أخرى ، وهو أنه قد يقع التعارض بين الاشتراك وبين الأربعة فيحصل أربعة أوجه ، ثم من تعارض النقل مع الثلاثة الباقية ثلاثة أوجه صارت سبعة ، ثم من تعارض المجاز مع الباقين وجهان صارت تسعة ثم من تعارض المجاز مع التخصيص وجه واحد فصار المجموع عشرة .

                                                      [ ص: 128 ] وقد نظم ذلك بعضهم فقال :

                                                      تجوز ثم إضمار وبعدهما نقل تلاه اشتراك فهو يخلفه     وأرجح الكل تخصيص وآخرهم
                                                      نسخ فما بعده قسم يخلفه

                                                      والضابط : تقدم التخصيص فالإضمار فالمجاز فالنقل فالاشتراك ، والتخصيص يرجح على سائر الوجوه ; لأن التخصيص راجح على الإضمار والمجاز ، فإن فيه عملا بالحقيقة من وجه بخلاف الأولين ، وعلى النقل لتوقف النقل على ما لا يتوقف عليه التخصيص ، وعلى الاشتراك لإخلاله بالفهم . الأول : التعارض بين الاشتراك والنقل ; لأنه على تقدير النقل يكون معنى اللفظ مفردا قبل النقل وبعده ; لأنه قبله للمعنى اللغوي الأصلي وبعده للعرفي أو الشرعي الذي نقل إليه ، وعلى تقدير الاشتراك يكون معناه متعددا في جميع الأحوال كالمجمل . مثاله : لفظ الزكاة فإنها مستعملة في النماء ، وفي القدر المخرج من النصاب ، فيحتمل الاشتراك بينهما أو في الأصل للنماء واستعملت في الثاني بطريق النقل ، فحملها عليه أولى ، ويحتمل أن يرجح الاشتراك ; لأنه لا يقتضي نسخ وضع سابق بخلاف النقل ، والإجماع على وقوع الاشتراك ، والاختلاف في النقل ، وأنكره كثير من المحققين كالقاضي وغيره . الثاني : التعارض بين الاشتراك والمجاز ، فالمجاز أولى ; لأنه أكثر استعمالا من المشترك بالاستقراء ، والحمل على الأكثر أولى ، وإعمال اللفظ فيه مع القرينة ، فيكون مجازا ودونها فيكون حقيقة بخلاف المشترك ، فإنه عند عدم القرينة يجب التوقف ، هذا هو المشهور واختاره الإمام الرازي وأتباعه وابن الحاجب . وأما الآمدي فقضية كلامه في مباحث الأمر : ترجيح الاشتراك .

                                                      [ ص: 129 ] وقد استشكل تصوير التعارض بين الاشتراك والنقل والمجاز ، فإن الاشتراك إنما يكون عند استواء حالاته في دلالته على المعنيين أو المعاني ، والمجاز إنما يكون حيث يكون دلالته في أحدهما ضعيفة والأخرى قوية ، واللفظ إنما يصير منقولا إذا يطلب دلالته الأولى وارتفعت . وأجيب بتصور ذلك في لفظ استعمل في معنيين ، ولم يعلم تساوي دلالته عليهما ولا رجحانها في أحدهما ، فيحتمل حينئذ أن يكون استعماله فيهما بطريق الاشتراك أو بطريق النقل ، أو حقيقة في أحدهما ومجازا في الآخر على السواء . الثالث : الإضمار أولى من الاشتراك ; لأنه لا يحتاج إلى القرينة إلا في صورة واحدة وهي إرادة المعنى الإضماري بخلاف المشترك فإنه مفتقر إلى القرينة في جميع صوره ; إذ ليس البعض منه أولى من البعض

                                                      الرابع : التخصيص خير من الاشتراك ; لأن التخصيص خير من المجاز ، والمجاز خير من الاشتراك ، والخير من الخير خير ، فكان التخصيص خيرا من الاشتراك ، وعلم من هذه الأربعة أن الاشتراك أضعف الخمسة . الخامس : المجاز خير من النقل ، لاستلزام النقل نسخ الأول وتغيير الوضع ، كدعوى المعتزلة أن الصلاة منقولة إلى الأفعال ، والجمهور قالوا : مجازات لغوية ، وهو أولى . السادس : الإضمار أولى من النقل ; لأن الإضمار مساو للمجاز ، والمجاز أولى من النقل . السابع : التخصيص خير من النقل ; لأنه خير من المجاز ، والمجاز خير من النقل . وعلم بهذه المسائل الثلاث أن النقل أضعف من الثلاثة بعد . الثامن : إذا وقع التعارض بين الإضمار والمجاز ففيه ثلاثة مذاهب قيل : [ ص: 130 ] المجاز أولى لكثرته ، وبه جزم في " المعالم " واختاره الهندي ، وقيل بالعكس ، وقيل هما سواء ، واختاره في " المحصول " وتبعه في " المنهاج " لاحتياج كل منهما إلى قرينة تمنع من فهم ظاهر اللفظ ، وكما أن الحقيقة تعين على فهم المجاز كذلك تعين على فهم المضمر . وحاصله : أن هذين نوعا مجاز ، فينبغي ذكره في ترجيح أنواع بعض المجاز على بعض . التاسع : التخصيص أولى من المجاز ; لأن الباقي من أفراد العام بعد التخصيص يتعين بخلاف المجاز ، فإنه ربما لا يتعين ، ومن هاتين المسألتين يعلم أن المجاز أضعف من الإضمار والتخصيص . العاشر : التخصيص خير من الإضمار ; لأنه خير من المجاز والمجاز مساو للإضمار على ما في " المحصول " ، كقوله تعالى { ولكم في القصاص حياة } فهذا خطاب خاص للورثة ; لأنهم إذا اقتصوا حصلت الحياة لهم بدفع شر هذا القاتل الذي صار عدوا لهم ، أو هو عام والمشروعية مضمرة ; لأن الناس إذا علموا مشروعيته كان أنفى للقتل فيها بينهم ، وهذا مثال ، وإلا فالراجح الاحتمال الثاني .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية