الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ الضمان وأثره ]

المثال الرابع والستون : اختلف الفقهاء في الضمان ، هل هو تعدد لمحل الحق وقيام للضمين مقام المضمون عنه أو هو استيثاق بمنزلة الرهن ؟ على قولين ، وهما روايتان عن مالك ، يظهر أثرهما في مطالبة الضامن مع التمكن من مطالبة المضمون عنه ، فمن قال بالقول الأول - وهم الجمهور - قالوا : لصاحب الحق مطالبة من شاء منهما على السواء ، ومن قال بالقول الثاني قال : ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذر عليه مطالبة المضمون عنه ، واحتج هؤلاء بثلاث حجج ; إحداها : أن الضامن فرع ، والمضمون عنه أصل ، وقاعدة الشريعة أن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول كالتراب في الطهارة والصوم في كفارة اليمين ، وشاهد الفرع مع شاهد الأصل . وقد اطرد هذا في ولاية النكاح واستحقاق الميراث ، لا يلي فرع مع أصله ولا يرث معه . الحجة الثانية : أن الكفالة توثقة [ ص: 310 ] وحفظ للحق ، فهي جارية مجرى الرهن ، ولكن ذاك رهن عين وهي رهن ذمة أقامها الشارع مقام رهن الأعيان للحاجة إليها واستدعاء المصلحة لها ، والرهن لا يستوفى منه إلا مع تعذر الاستيفاء من الراهن ، فكذا الضمين . ولهذا كثيرا ما يقترن الرهن والضمين لتواخيهما وتشابههما وحصول الاستيثاق بكل منهما .

الحجة الثالثة : أن الضامن في الأصل لم يوضع لتعدد محل الحق كما لم يوضع لنقله ، وإنما وضع ليحفظ صاحب الحق حقه من التوى والهلاك ، ويكون له محل يرجع إليه عند تعذر الاستيفاء من محله الأصلي ، ولم ينصب الضامن نفسه لأن يطالبه المضمون له مع وجود الأصيل ويسرته والتمكن من مطالبته .

والناس يستقبحون هذا ، ويعدون فاعله متعديا ، ولا يعذرونه بالمطالبة ، حتى إذا تعذر عليه مطالبة الأصيل عذروه بمطالبة الضامن وكانوا عونا له عليه ، وهذا أمر مستقر في فطر الناس ومعاملاتهم بحيث لو طالب الضامن والمضمون عنه إلى جانبه والدراهم في كمه وهو متمكن من مطالبته لاستقبحوا ذلك غاية الاستقباح .

وهذا القول في القوة كما ترى ، وهو رواية ابن القاسم في الكتاب عن مالك .

ولا ينافي هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : { الزعيم غارم } فإنه لا عموم له ، ولا يدل على أنه غارم في جميع الأحوال ، ولهذا لو أدى الأصيل لم يكن غارما ، ولحديث أبي قتادة في ضمان دين الميت لتعذر مطالبة الأصيل ، ولا يصح الاحتجاج بأن الضمان مشتق من الضم فاقتضى لفظه ضم إحدى الذمتين إلى الأخرى لوجهين ; أحدهما : أن الضم من المضاعف ، والضمان من الضمين ، فمادتهما مختلفة ومعناهما مختلف وإن تشابها لفظا ومعنى في بعض الأمور . الثاني : أنه لو كان مشتقا من الضم فالضم قدر مشترك بين ضم يطالب معه استقلالا وبدلا ، والأعم لا يستلزم الأخص .

التالي السابق


الخدمات العلمية