الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
67 [ ص: 263 ] حديث خامس وعشرون لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات .

التالي السابق


هكذا هذا الحديث في الموطأ بهذا الإسناد عند جميع رواته فيما علمت .

ورواه يعقوب بن الوليد ، عن مالك ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وليس بمحفوظ لمالك بهذا الإسناد .

حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا محمد بن أحمد بن هارون الأنماطي بمكة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ، حدثنا جدي ، حدثنا يعقوب بن الوليد ، حدثنا مالك ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبع مرات .

هذا عندي خطأ في الإسناد لا شك فيه ، والله أعلم .

[ ص: 264 ] حدثني خلف بن قاسم ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين العسكري ، حدثنا الربيع بن سليمان والمزني ، قالا : حدثنا محمد بن إدريس الشافعي ، قال : أخبرنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات .

وهكذا يقول مالك في هذا الحديث : إذا شرب الكلب ، وغيره من رواة حديث أبي هريرة هذا بهذا الإسناد وبغيره على تواتر طرقه وكثرتها عن أبي هريرة وغيره كلهم يقول : إذا ولغ الكلب ، ولا يقولون : شرب الكلب ، وهو الذي يعرفه أهل اللغة .

وأما قوله في الحديث : فليغسله سبع مرات ، ولم يزد ولا ذكر التراب في أخراهن ولا أولاهن ، فكذلك رواه الأعرج ، وأبو صالح ، وأبو رزين ، وثابت الأحنف ، وهمام بن منبه ، وعبد الرحمن أبو السري ، وعبيد بن حنين ، وثابت بن عياض مولى عبد الرحمن بن زيد ، وأبو سلمة كلهم رووه عن أبي هريرة ولم يذكروا التراب .

واختلف عن ابن سيرين في ذلك فروى هشام ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 265 ] قال : طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرار أولاهن بالتراب وكذلك رواه حبيب بن الشهيد ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، وكذلك رواه أيوب في غير رواية حماد بن زيد عنه ، عن محمد بن سيرين إلا أن أيوب وقفه على أبي هريرة ، وقال : كان محمد ينحو بأحاديث أبي هريرة نحو الرفع .

ورواه حماد بن زيد عن أيوب فلم يذكر فيه التراب .

ورواه قتادة ، عن ابن سيرين أنه حدثه عن أبي هريرة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات السابعة بالتراب .

ورواه خلاس ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أخراهن بالتراب ، وبعضهم يقول في حديث خلاس : إحداهن بالتراب ، وسائر رواة أبي هريرة لم يذكروا التراب لا في الأولى ولا في الآخرة ولا في شيء من الغسلات ، فهذا ما في حديث أبي هريرة .

وأما حديث عبد الله بن مغفل المزني ، فإنه جعلها ثمان غسلات منهما سبع غسلات بالماء ، وجعل الغسلة الثامنة بالتراب .

[ ص: 266 ] حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي التياح ، قال : سمعت مطرفا يحدث عن ابن المغفل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب ثم قال : ما لهم وللكلاب ؟ ثم رخص لهم في كلب الصيد ، وقال : إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات ، وعفروه الثامنة بالتراب .

وبهذا الحديث كان يفتي الحسن أن يغسل الإناء سبع مرات والثامنة بالتراب ، ولا أعلم أحدا كان يفتي بذلك غيره .

وفي هذا الحديث دليل على أن الكلب الذي أبيح اتخاذه هو المأمور فيه بغسل الإناء من ولوغه سبعا ، وهذا يشهد له النظر والمعقول ؛ لأن ما لم يبح اتخاذه وأمر بقتله محال أن يتعبد فيه بشيء ؛ لأن ما أمر بقتله فهو معدوم لا موجود ، وما أبيح لنا اتخاذه للصيد والماشية أمرنا بغسل الإناء من ولوغه .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن أبي رزين ، أنه رأى أبا هريرة يضرب جبهته بيده ثم يقول : يا أهل العراق أتزعمون [ ص: 267 ] أني أكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ليكون لكم المهنأ وعلي الإثم ، أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن الجهم ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : أخبرنا شعبة ، عن الأعمش ، عن ذكوان ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا ولغ الكلب في إناء فاغسلوه سبع مرات .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام بن منبه ، قال : قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات .

قال أبو عمر : اختلف العلماء في العمل بظاهر هذا الحديث واختلفوا في معناه أيضا على ما نذكره بعون الله ، فأما أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء المسلمين فإنهم يقولون إن الإناء يغسل من ولوغ الكلب سبع مرات بالماء .

[ ص: 268 ] وممن روي ذلك عنه بالطرق الصحاح : أبو هريرة ، وابن عباس ، وعروة بن الزبير ، ومحمد بن سيرين ، وطاوس ، وعمرو بن دينار ، وبه قال مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وداود الطبري .

ذكر المروزي ، قال : أخبرنا أبو كامل ، قال : حدثنا أبو زرعة ، عن أبي حمزة ، قال : سمعت ابن عباس يقول : إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسله سبع مرار فإنه رجس ثم اشرب منه وتوضأ ، قال : وحدثنا هدبة بن خالد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه قال : إذا ولغ الكلب في الإناء يغسل سبع مرار .

وعبد الرزاق عن معمر ، وابن جريج عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسله سبع مرات ، وقال ابن جريج عن ابن طاوس : وكان أبي لا يجعل فيه شيئا حتى يغسله سبع مرات .

قال أبو عمر : وفي هذه المسألة قول ثان روي عن الزهري وعطاء ، ذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : سألت [ ص: 269 ] الزهري ، عن الكلب يلغ في الإناء ، قال : يغسل ثلاث مرات ، قال : ولم أسمع في الهر شيئا .

وذكر عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : كم يغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب ؟ قال : كل ذلك قد سمعت سبعا ، وخمسا ، وثلاث مرات .

وفي المسألة قول ثالث ، قال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والليث بن سعد : يغسل بلا حد .

قال أبو عمر : قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا ما يرد قول هؤلاء فلا وجه للاشتغال به .

ولقد روي عن عروة بن الزبير أنه كان له قدح يبول فيه فولغ فيه الكلب فأمر عروة بغسله سبعا اتباعا للحديث في ذلك .

واختلف الفقهاء أيضا في سؤر الكلب وما ولغ فيه من الماء والطعام ، فجملة ما ذهب إليه مالك واستقر عليه مذهبه عند أصحابه أن سؤر الكلب طاهر ويغسل الإناء من ولوغه سبعا تعبدا استحبابا أيضا لا إيجابا ، وكذلك يستحب لمن وجد [ ص: 270 ] ماء لم يلغ فيه الكلب مع ماء قد ولغ فيه كلب أن يترك الذي ولغ فيه الكلب وغيره أحب إليه منه ، وجاءت عنه روايات في ظاهرها اضطراب ، والذي تحصل عليه مذهبه ما أخبرتك ، ولا بأس عنده بأكل ما ولغ فيه الكلب من اللبن والسمن وغير ذلك ، ويستحب هرق ما ولغ فيه من الماء ، وفي الجملة هو عنده طاهر ، وقال : هذا الحديث ما أدري ما حقيقته ؟ وضعفه مرارا فيما ذكر ابن القاسم عنه .

وذكر عنه ابن وهب في هذا الإسناد في حديث المصراة أنه قال : وهل في هذا الإسناد لأحد مقال ، وذلك حين بلغه أن أبا حنيفة وغيره من أهل العراق يردونه .

وروى ابن القاسم عنه أنه لا يغسل الإناء من ولوغ الكلب إلا في الماء وحده ، وروى ابن وهب عنه أنه يغسل من الماء وغيره ، وكل إناء ولغ فيه - طعاما كان أو غيره - يؤكل الطعام ويغسل الإناء بعد تعبدا ، ولا يراق شيء من الطعام ، وإنما يراق الماء عند وجوده ليسارة مئونته ، قال أبو بكر الأبهري : وروي عن مالك أنه يغسل الإناء من ولوغ الخنزير سبعا ، ولا يصح ذلك عنه .

وروى معن عن مالك غسل الإناء من ولوغ الخنزير بأكثر .

[ ص: 271 ] وروى مطرف عن مالك مثل ذلك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والليث بن سعد : سؤر الكلب نجس ، ولم يحدوا الغسل منه .

قالوا : إنما عليه أن يغسله حتى يغلب على ظنه أن النجاسة قد زالت ، وسواء واحد أو أكثر .

وقال الأوزاعي : سؤر الكلب في الإناء نجس ، وفي المستنقع ليس بنجس ، قال : ويغسل الثوب من لعابه ، ويغسل ما أصاب لحم الصيد من لعابه .

وقال الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، والطبري : سؤر الكلب نجس ، ويغسل الإناء منه سبعا أولاهن بالتراب ، وهو قول أكثر أهل الظاهر .

وقال داود : سؤر الكلب طاهر ، وغسل الإناء منه سبعا فرض إذا ولغ في الإناء ، وسواء كان في الإناء ماء أو غير ماء هو طاهر ، ويغسل منه الإناء سبعا ، ويتوضأ بالماء الذي ولغ فيه ويؤكل غير ذلك من الطعام والشراب الذي ولغ فيه .

قال أبو عمر : من ذهب إلى أن الكلب ليس بنجس فسؤره عنده طاهر ، وغسل الإناء من ولوغه سبع مرات هو عنده تعبد في غسل الطاهر خصوصا لا يتعدى ، ومن ذهب إلى أن [ ص: 272 ] الكلب نجس وسؤره نجس ممن قال أيضا إن الإناء من ولوغه يغسل سبعا قال : التعبد إنما وقع في عدد الغسلات من بين سائر النجاسات .

قال الشافعي وأصحابه : الكلب والخنزير نجسان حيين وميتين ، وليس في حي نجاسة سواهما ، قال : وجميع أعضاء الكلب مقيسة على لسانه وكذلك الخنزير ، فمتى أدخل الكلب يده أو ذنبه أو رجله أو عضوا من أعضائه في الإناء غسل سبعا بعد هرق ما فيه ، وقد أفسد ما في الإناء بولوغه ونجسه ، قال الشافعي : وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهر : إنه ليس بنجس ، دليل على أن في الحيوان من البهائم ما هو نجس وهو حي وما ينجس ولوغه ، قال : ولا أعلمه إلا الكلب المنصوص عليه دون غيره ، قال : والخنزير شر منه ؛ لأنه لا يجوز اقتناؤه ، ولا بيعه ، ولا شراؤه عند أحد مع تحريم عينه .

ومما احتج به أصحاب الشافعي أيضا : قوله - صلى الله عليه وسلم - : طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات قالوا : فأمر بتطهير الإناء ، فدل على نجاسته .

[ ص: 273 ] واحتجوا بما رواه علي بن مسهر وغيره عن الأعمش ، عن أبي صالح وأبي رزين ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله سبع مرات قالوا : فأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب كما أمر بإراقة السمن المائع إذا وجدت فيه ميتة ، وبطرح السمن الجامد الذي حول الفأرة إذا ماتت فيه .

قال أبو عمر : أما هذا اللفظ في حديث الأعمش : فليهرقه ، فلم يذكره أصحاب الأعمش الثقات الحفاظ مثل شعبة وغيره ، وأما قوله عليه السلام : طهور إناء أحدكم ، فصحيح إلا أنه قد يقع التطهير على النجس وعلى غير النجس ، ألا ترى أن الجنب ليس بنجس فيما مس ولاصق ، وقد قال الله عز وجل : ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) فأمر الجنب بالتطهير .

وقال المخالف : الانفصال من هذا أن الجنب غسله عبادة ، وليس الإناء مما يلحقه عبادة ، ويدخل عليه أن الإناء يجوز أن يكون متعبدا فيه ، كما أن عدد الغسلات عبادة عنده ، وينفصل من هذا أيضا أن الأصل في الشرائع العلل ، وما كان لغير العلة ورد به التوقيف ، وفي هذه المسألة كلام [ ص: 274 ] كثير بين الشافعيين والمالكيين يطول الكتاب بذكره ، وهي مسألة قد اختلف فيها السلف والخلف ، كما اختلفوا في مقدار الماء الذي يلحقه النجاسة ، وفيما مضى في سائر الكتاب في ذلك كفاية .

ذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وعن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان يكره سؤر الكلب ، وذكر عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : ولغ الكلب في جفنة فيها لبن ، فأدركوه عند ذلك فغرفوا حول ما ولغ فيه ، قال : لا يشربوه .

وذكر الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي وعبد الرحمن بن نمر أنهما سمعا الزهري يقول في إناء قوم ولغ فيه الكلب فلم يجدوا ماء غيره ، قال : يتوضأ به ، قال : فقلت للأوزاعي : ما تقول في ذلك ؟ فقال : أرى أن يتوضأ به ويتيمم ، قال الوليد : فذكرته لسفيان الثوري ، فقال : هذا والله الفقه فيه لقول الله [ ص: 275 ] عز وجل ( فلم تجدوا ماء ) وهذا ماء ، وفي النفس منه شيء ، فأرى أن يتوضأ به ويتيمم ، قال الوليد : وقلت لمالك بن أنس والأوزاعي ، في كلب ولغ في إناء تور أو غيره ، فقالا : لا يتوضأ به ، قلت لهما : فلم أجد غيره ، فقالا : توضأ به ، قلت لهما : أيغسل الإناء من ولوغ الكلب المعلم سبعا كما يغسل من غير المعلم ؟ قالا : نعم .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، قال : حدثنا الوليد ، فذكره .




الخدمات العلمية