الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        115 93 - مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار ، أن عمر بن الخطاب صلى بالناس الصبح ، ثم غدا إلى أرضه بالجرف ، فوجد في ثوبه احتلاما ، فقال : إنا لما أصبنا الودك لانت العروق . فاغتسل ، وغسل الاحتلام من ثوبه ، [ ص: 111 ] وعاد لصلاته .

                                                                                                                        94 - وفي حديثه عن إسماعيل بن أبي حكيم ، عن سليمان بن يسار ، أن عمر بن الخطاب غدا إلى أرضه بالجرف ، فوجد في ثوبه احتلاما ؛ فقال : لقد ابتليت بالاحتلام منذ وليت أمر الناس فاغتسل ، وغسل ما رأى في ثوبه من الاحتلام ، ثم صلى بعد أن طلعت الشمس .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        2954 - وليس في حديثي سليمان بن يسار أنه غسل من ثوبه ما رأى فيه الاحتلام ، ونضح ما لم ير ، وذلك في حديثي هشام بن عروة .

                                                                                                                        2955 - ففي غسل عمر الاحتلام من ثوبه دليل على نجاسته ؛ لأنه لم يكن ليشتغل مع شغل السفر بشيء طاهر .

                                                                                                                        2956 - ولم يختلف العلماء فيما عدا المني من كل ما يخرج من الذكر : أنه نجس .

                                                                                                                        2957 - وفي إجماعهم على ذلك ما يدل على نجاسة المني المختلف فيه . ولو لم تكن له علة جامعة بين ذلك إلا خروجه مع البول والمذي والودي مخرجا واحدا لكفى .

                                                                                                                        [ ص: 112 ] 2958 - وأما الرواية المرفوعة فيه فروى عمرو بن ميمون بن مهران ، عن سليمان بن يسار عن عائشة ، قالت : كنت أغسله من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        2959 - وروى همام بن الحارث ، والأسود عن عائشة : كنت أفركه من ثوب رسول الله .

                                                                                                                        2960 - وحديث همام بن الحارث والأسود أثبت من جهة الإسناد .

                                                                                                                        [ ص: 113 ] 2961 - ولا حجة في غسله ؛ لأنه جائز غسل المني وفركه عند من رآه طاهرا ، كما يجوز غسل الطين الطري وفركه إذا يبس .

                                                                                                                        2962 - وأما اختلاف السلف والخلف في نجاسة المني فروي عن عمر بن الخطاب ، وجابر بن سمرة : أنهم غسلوه من ثيابهم وأمروا بغسله .

                                                                                                                        2963 - ومثله عن ابن عمر وعائشة على اختلاف عنهما .

                                                                                                                        2964 - وروينا عن جبير بن نفير أنه أرسل إلى عائشة يسألها عن المني في الثوب . فقالت : إن شئت فاغسله ، وإن شئت فاحككه .

                                                                                                                        2965 - وروي عن سعيد بن المسيب أنه أمر بغسله ، وروي عنه أنه قال : إذا صلى فيه لم يعد .

                                                                                                                        2966 - وقال مالك : غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا .

                                                                                                                        2967 - وعن الأوزاعي نحوه .

                                                                                                                        2968 - ولا يجزئ عند مالك وأصحابه في المني ولا في سائر النجاسات إلا الغسل بالماء ، ولا يجزئ فيه عنده الفرك ، وأنكره ، ولم يعرفه .

                                                                                                                        2969 - وأما أبو حنيفة وأصحابه فالمني عندهم نجس ، ويجزئ فيه الفرك على أصلهم في النجاسة : أنه يطهرها كل ما أزال عينها من الماء وغير الماء .

                                                                                                                        2970 - وقال الثوري : يفرك ، فإن لم يفركه أجزته صلاته .

                                                                                                                        [ ص: 114 ] 2971 - وقال الحسن بن حي : لا تعاد الصلاة من المني في الثوب وإن كثر ، وتعاد من المني في الجسد وإن قل .

                                                                                                                        2972 - وكان يفتى مع ذلك بفركه من الثوب إذا كان يابسا ، وبغسله إذا كان رطبا .

                                                                                                                        2973 - وقال الليث بن سعد : هو نجس ، ويعيد منه في الوقت ، ولا يعيد بعده . ويفركه من ثوبه بالتراب قبل أن يصلي .

                                                                                                                        2974 - وقال الشافعي : المني طاهر ، ويفركه من ثوبه إذا كان يابسا ، وإن لم يفركه فلا بأس به .

                                                                                                                        2975 - وأما النجاسات فلا يطهرها عنده إلا الغسل بالماء . كقول مالك سواء .

                                                                                                                        2976 - والمني عند أبي ثور ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود طاهر ، كقول الشافعي . ويستحبون غسله رطبا ، وفركه يابسا .

                                                                                                                        2977 - وهو قول سعد بن أبي وقاص . وعبد الله بن عباس . كان سعد يفرك المني من ثوبه . وقال ابن عباس : هو كالنجاسة ، أمطه عنك بإذخرة ، وامسحه بخرقة .

                                                                                                                        2978 - وكذلك التابعون مختلفون بالحجاز والعراق على هذين القولين : منهم من يرى فركه ، ومنهم من لا يرى إلا غسله ، ويطول الكتاب بذكرهم .

                                                                                                                        2979 - وأما قول عمر - رحمه الله - " أغسل ما أرى ، وأنضح ما لم أر - فالنضح - لا محالة - ها هنا : الرش ؛ بدليل قوله : أغسل ما رأيت . فجعل النضح غير الغسل [ ص: 115 ] وهو الظاهر في النضح وإن كان قد يعبر في مواضع بالنضح عن الغسل ، على حسب ما يفهمه السامع .

                                                                                                                        2980 - ولا خلاف بين العلماء أن النضح في حديث عمر هذا معناه الرش ، وهو عند أهل العلم طهارة ما شك فيه ، كأنهم جعلوه دفعا للوسوسة . ندب بعضهم إلى ذلك ، وأباه بعضهم ، وقال : لا يزيده النضح إلا شرا .

                                                                                                                        2981 - وفي رواية أخرى : لا يزيده النضح إلا قذرا . والأصل في الثوب الطهارة ، وكذلك الأرض ، وجسد المؤمن حتى يصح حلول النجاسة في شيء من ذلك .

                                                                                                                        2982 - فمن استيقن حلول المني في ثوبه غسل موضعه منه ، إذا اعتقد نجاسته ، كغسله سائر النجاسات على ما قد بينا . وإن لم يعرف موضعه غسله كله ، فإن شك هل أصاب ثوبه شيء منه أم لا نضحه بالماء على ما وصفنا . وعلى هذا مذهب الفقهاء لما ذكرنا .

                                                                                                                        2983 - روى معمر ، عن الزهري ، عن طلحة بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة ، أنه كان يقول في الجنابة تصيب الثوب : إن رأيت أثره فاغسله ، وإن خفي عليك فاغسل الثوب كله ، وإن شككت فلم تدر أأصاب الثوب أم لا فانضحه .

                                                                                                                        2984 - وروي نحو ذلك عن ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وأنس بن مالك ، وابن سيرين ، والشعبي ، وجماعة من التابعين .

                                                                                                                        2985 - وقال عيسى بن دينار : من صلى بثوب مشكوك في نجاسته أعاد في الوقت .

                                                                                                                        [ ص: 116 ] 2986 - وقال ابن نافع : لا إعادة عليه . وهو الصواب ؛ لما قدمنا في كل شيء طاهر : أنه على طهارته حتى يصح حلول النجاسة فيه .

                                                                                                                        2987 - وأما قول عمر : " لقد ابتليت بالاحتلام منذ وليت أمر الناس " فذلك - والله أعلم - باشتغاله بأمور المسلمين ليلا ونهارا عن النساء .

                                                                                                                        2988 - وأما قوله لعمرو بن العاص حين قال له : دع ثوبك يغسل ، فقال : " لو فعلتها لكانت سنة " فإنما كان ذلك لعلمه بمكانه من قلوب المؤمنين ولاشتهار قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي " وأنهم كانوا يمتثلون أفعالهم فخشي التضييق على من ليس له إلا ثوب واحد . وكان - رحمه الله - يؤثر التقلل من الدنيا ، والزهد فيها .

                                                                                                                        2989 - وفي إعادة عمر صلاته وحده دون الذين صلوا خلفه دليل على صحة ما ذهب إليه الحجازيون : أنه لا يعيد من صلى خلف الجنب وغير المتوضئ ، إذا لم يعلموا حاله .

                                                                                                                        2990 - وأما اختلاف العلماء في القوم يصلون خلف إمام ناس لجنابته فقال مالك وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأصحابه : لا إعادة عليهم .

                                                                                                                        2991 - وروي عن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب . وعليه أكثر العلماء .

                                                                                                                        [ ص: 117 ] 2992 - وحسبك بحديث عمر ، فإنه صلى بجماعة من الصحابة صلاة الصبح ، ثم غدا إلى أرضه بالجرف ، فوجد في ثوبه احتلاما ، فغسله ، واغتسل ، وأعاد صلاته وحده ، ولم يأمرهم بإعادة الصلاة .

                                                                                                                        2993 - وهذا في جماعتهم من غير نكير من واحد منهم ، وقد روي عنه أنه أفتى بذلك .

                                                                                                                        2994 - وروى شعبة عن الحكم ، عن إبراهيم ، قال : قال عمر في جنب صلى بقوم ، قال : يعيد ولا يعيدون .

                                                                                                                        2995 - قال شعبة ، وقال حماد : أعجب إلي أن يعيدوا .

                                                                                                                        2996 - وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي في الجنب يصلي بالقوم ، قال : يعيد ، ولا يعيدون .

                                                                                                                        2997 - روى أحمد بن حنبل ، قال حدثنا هشيم ، عن خالد بن سلمة ، قال : أخبرني محمد بن عمرو بن المصطلق أن عثمان بن عفان صلى بالناس صلاة الفجر فلما أصبح وارتفع النهار فإذا هو بأثر الجنابة ، فقال : كبرت والله ! كبرت والله ! فأعاد الصلاة ، ولم يأمرهم أن يعيدوا .

                                                                                                                        2998 - ذكره أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل ، قال : وسمعت أحمد يقول : يعيد ولا يعيدون . قال : سألت سليمان بن حرب عن ذلك ، فقال : إذا صح لنا عن عمر [ ص: 118 ] شيء اتبعناه ولم نعده ، نعم ، يعيد ، ولا يعيدون .

                                                                                                                        2999 - وذكر عن الحسن ، وإبراهيم ، وسعيد بن جبير مثله .

                                                                                                                        3000 - وهو قول إسحاق ، وأبي ثور ، وداود .

                                                                                                                        3001 - إلا أن الأثرم حكى عن أحمد قال : إذا صلى إمام بقوم وهو على غير وضوء ، ثم ذكر قبل أن يتم فإنه يعيد ويعيدون ، ويبتدئون الصلاة ، فإن لم يذكر حتى يفرغ من صلاته أعاد وحده ، ولم يعيدوا .

                                                                                                                        3002 - كأنه استعمل حديث النبي - عليه السلام - وحديث عمر .

                                                                                                                        3003 - وقال أبو حنيفة : عليهم الإعادة ؛ لأن صلاتهم مرتبطة بصلاة إمامهم . فإذا لم تكن له صلاة لم تكن لهم .

                                                                                                                        3004 - وهو قول الشعبي وحماد بن أبي سليمان ، وروي عن علي مثله .

                                                                                                                        3005 - ذكره عبد الرزاق عن إبراهيم بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين ، عن علي - رضي الله عنه - وهو غير متصل .

                                                                                                                        3006 - واختلف مالك والشافعي - والمسألة بحالها - في الإمام يتمادى في صلاته ، ذاكرا لجنابته ، أو ذاكرا أنه على غير وضوء ، أو مبتدئا صلاته كذلك ، وهو مع ذلك معروف بالإسلام .

                                                                                                                        3007 - فقال مالك وأصحابه : إذا عرف الإمام بأنه على غير طهارة ، وتمادى في صلاته - بطلت صلاة من خلفه ؛ لأنه أفسدها عليهم .

                                                                                                                        3008 - وقال الشافعي : صلاة القوم جائزة تامة ، ولا إعادة عليهم ، إذا لم يعلموا حال إمامهم ؛ لأنهم لم يكلفوا علم ما غاب عنهم ، وقد صلوا خلف رجل مسلم في علمهم .

                                                                                                                        3009 - وهو قول أكثر القائلين بأن الإعادة على من صلى خلف إمام جنب ناس [ ص: 119 ] لجنابته ، وإليه ذهب ابن نافع صاحب مالك .

                                                                                                                        3010 - ومن حجتهم أنه لا فرق بين عمد الإمام ونسيانه ؛ لأنهم لم يكلفوا علم الغيب في حاله ، وإنما تفسد صلاتهم إذا علموا بأن إمامهم على غير طهارة ، فتمادوا خلفه ، فيكونون حينئذ المفسدين على أنفسهم . وأما هو فغير مفسد بما لا يظهر من حاله إليهم ، لكن حاله في نفسه تختلف : فيأثم في عمده إن تمادى بهم ، ولا إثم عليه إن لم يعلم ذلك ، وسها عنه .

                                                                                                                        3011 - وأما قول مالك فيمن رأى في ثوبه احتلاما لا يدري متى كان ؟ ولا يذكر شيئا رآه في منامه : إنه يغتسل ، ويعيد ما صلى من أحدث نوم نامه ، ولم يعد ما كان قبله - فهذا من قول مالك يرد قول : يرون على من شك في حدثه بعد أن أيقن بالوضوء إعادة الوضوء قال : وذلك أنه صلى بطهارة مشكوك فيها .

                                                                                                                        3012 - وخالفه أكثر العلماء في ذلك ، فلم يروا الشك عملا ، ولا دفعوا به اليقين في الأصل .

                                                                                                                        3013 - وكان ابن خواز منداذ يقول : قول مالك فيمن شك في الحدث وهو على طهارة : إن عليه الوضوء - استحباب واستحسان .

                                                                                                                        3014 - وكان عبد الملك بن حبيب يقول : الوضوء عليه واجب ، ويقول في هذه المسألة : يلزمه أن يعيد ما صلى من أول نوم نامه في ذلك الثوب إذا كان عليه ، لا يلبس معه غيره .




                                                                                                                        الخدمات العلمية