الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإنما يجب عليه أن يزكي عمن كان عنده منهم في شيء من نهار آخر يوم من شهر رمضان وغابت الشمس ليلة شوال فيزكي عنه وإن مات من ليلته وإن ولد له بعد ما غربت الشمس ولد أو ملك عبدا فلا زكاة عليه في عامه ذلك " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اختلف قول الشافعي في الوقت الذي تجب فيه زكاة الفطر فله فيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قوله في القديم تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر ، وبه قال أبو حنيفة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : قاله في الجديد أنها تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر ليكون جامعا بين آخر شيء من نهار رمضان ، وأول شيء من ليل شوال ، وبه قال الثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال مالك بقوله القديم إذا ولد له ولد ، وبقوله الجديد إذا اشترى عبدا ، ووجه قوله القديم أنها تجب بطلوع الفجر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم . فدل على تعلق الوجوب به وأوله طلوع الفجر ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أدوا زكاة فطركم وأضاف الأداء إلى الفطر ، وعلقه به ، وإطلاق الفطر إشارة إلى نهار اليوم دون ليله ، [ ص: 362 ] ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : " فطركم يوم تفطرون وعرفتكم يوم تعرفون وأضحاكم يوم تضحون " ، ولأن تعلق زكاة الفطر بعيد الفطر كتعلق الأضحية بعيد الأضحى فلما كانت الأضحية متعلقة بنهار النحر دون ليله أن تكون الفطرة متعلقة بنهار الفطر دون ليلة ، وتحرير ذلك قياسا : أنه حق في مال يخرج في يوم عيد ، فوجب أن يكون تعلقه باليوم كالأضحية ، ولأن ليلة الفطر مثل ما قبلها فيما يحل ويحرم فيها ، فلم يجز أن تتعلق زكاة الفطر بها كما لم تتعلق بما قبلها . وتحرير ذلك قياسا : أنه خصلة عن يوم من رمضان فوجب أنه لا يتعلق به زكاة الفطرة كاليوم الأول ، والدلالة على صحة قوله في الجديد في تعلقها بغروب الشمس دون طلوع الفجر ، حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان طهورا للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين وفيه دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : قوله : فرض زكاة الفطر من رمضان ، فأخبر أنها مفروضة بالفطر من رمضان ، وأول فطر يقع من جميع رمضان مغيب الشمس من آخر نهاره ، فاقتضى أن يكون الوجوب متعلقا به .

                                                                                                                                            والثاني : قوله : طهورا للصائم : لأن من لم يدرك شيئا من زمان الصوم لم يحتج إلى الطهرة من الصوم ، وقد تحرر هذه الدلالة قياسا فيقال : لأنه لم يدرك شيئا من رمضان ، فوجب أن لا تلزمه زكاة الفطر قياسا على ما بعد طلوع الفجر ، ولأن طلوع الفجر في حكم ما تقدم في أن الخروج من الصوم قد تقدمه ، فلم يجز أن يتعلق به زكاة الفطر كما لم يتعلق بما بعده .

                                                                                                                                            وتحرير ذلك قياسا أنه وقت لم يتعقب زمان الصوم فوجب أن لا يتعلق به زكاة الفطر ، قياسا على طلوع الشمس من يوم الفطر ، ولأن زكاة الفطر إما أن تجب بخروج رمضان ، أو بدخول شوال ، وغروب الشمس بجميع الأمرين فكان تعلق الزكاة به أولى .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن إغناءهم بدفعها لهم لا بوجوبها لهم ، وهي تدفع إليهم في اليوم لا في الليل ، وتجب لهم في الليل لا في اليوم .

                                                                                                                                            والثاني : أن أمره بإغنائهم عن الطلب فيما لا يدل على وجوبها ، أو دفعها فيه ، وإنما يدل على وجوب إغنائهم عن الطلب ، وهم يستغنون فيه عن الطلب بما يدفع إليهم من الليل .

                                                                                                                                            [ ص: 363 ] وأما قولهم أدوا زكاة فطركم والفطر إشارة إلى نهار اليوم دون ليله ، فالجواب عنه أن الفطر إشارة إلى عين زمان الصوم من الليل جميعا والنهار لغة وشرعا .

                                                                                                                                            أما اللغة فلأن الإمساك غير موجود فيه ، وأما الشرع فقوله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم . وأما الاعتبار فهو أن يوم الفطر وليلته سواء ، في أن اسم الفطر منطلق عليهما .

                                                                                                                                            وأما القياس على الأضحية ، فإن قصد الجمع بينهما في زمان الإخراج صح خروجه ، وإن قصد الجمع بينهما في زمان الوجوب فالأضحية غير واجبة ، وأما قياسه ليلة الفطر على ما قبلها فغير صحيح : لأن ما قبلها ليس بفطر عن جميع الصوم ، وإنما هو فطر عن بعضه وليلة الفطر خروج من جميعه فافترقا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية