الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فالزندقة ليست صفة لازمة للعبد، فقد يكون في حال مؤمنا وفي حال منافقا، ففي حال نفاقه متكلم بالكفر وفي حال إيمانه يتوب منه. وهذا الحال يشبه حال أبي العلاء المعري وأمثاله ممن ثبت عنه أنه [ ص: 458 ] تكلم بكلمات كفرية، مع تكلمه بكلمات إيمانية تنافي ذلك.

والواحد من هؤلاء قد تكون عاقبته باعتبار أحوال إيمانه، ومن ذمه فباعتبار نفاقه واستصحاب لحال نفاقه إلى الموت، وتفاصيل أحوالهم المعينة إلى الله، لكن يجب الجزم بكفر الكلام المنقول عنهم الذي يخالف دين الإسلام من مقالات أهل الاتحاد ونحوها.

فإذا تبين هذا فالذي لا ريب فيه أن الحلاج بدا منه من الأقوال ما هي محرمة في دين الإسلام، موجبة للقتل باطنا وظاهرا، وأن الرجل لم يكن على الصراط المستقيم، ولا ملازما لطريقة الكتاب والسنة، ولا هو ممن يجوز الاقتداء به ولا اتخاذه إماما، ولا يجوز التعصب له والانتصار له بدعوى ضد ذلك بكون كان له عبادات وزهادات، فيمكن أنه تاب فيما بينه وبين الله مما هو كفر، فيكون قد مات على الإيمان وهو من أهل الكبائر، ويمكن أنه لم يتب من ذلك فيكون منافقا، ويمكن أنه تاب من الكفر والبدعة والفسوق فمات تائبا لا ذنب له، ويمكن أنه لم يتب من ذلك فيكون حكمه حكم فساق أهل الملة إن [ ص: 459 ] شاء الله عذبه وإن شاء غفر له. ويمكن أنه بقي مصرا على خطإ هو ذنب أو خطأ هو مغفور. فهذه كلها أقسام ممكنة، والجزم بواحد منها بلا دليل قول بغير علم، [و] هو كلام فيما لا يعنينا. فإن الذي يجب علينا أن نثبت ما أثبته الكتاب والسنة وننكر ما أنكره الكتاب والسنة، وهذا يظهر بذكر الحكم فيما ينقل عنه من الأقوال نظما ونثرا.

فنقول: إنه قد نقل عن الحلاج من المقالات أنواع كثيرة لا ريب أن كثيرا منها كذب عليه، فإنه قد صار له شهرة، فمن الناس من قد يبالغ في ذمه حتى ينقل عنه ما لم يقله، ومن الناس من يريد ينفق المقالات الباطلة فيحكيها عنه ليقبلها من يحسن الظن.

وهذا قد فعل بغير الحلاج من علماء الدين وأئمة الهدى، نقل عنهم من الكلمات المكذوبة أنواع، تارة بغرض الذم وتارة بغرض المدح، وتارة بغرض القبول لقول سيد ولد آدم رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكذلك نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الأكاذيب ما الله به عليم، وعن جعفر بن محمد الصادق، وغير هؤلاء من أئمة الهدى.

وينقل عن يزيد والحجاج وأمثالهما من الأكاذيب في الذم ما لم [ ص: 460 ] يقولوه ولم يفعلوه، وإن كان لهما ما لهما فما الشر ما يقع مثل هذا.

وكذلك الحلاج نقل عنه نظما ونثرا من مقالات الاتحاد ومقالات أهل الاتحاد ما الله به عليم، وصار ذلك فتنة لمن يظنه من أولياء الله المتقين، وعلوم الأسرار والحقائق، بمنزلة ما نقل عن علي رضي الله عنه من هذه الأحاديث، وبمنزلة ما نقل عن أبي يزيد إما كذبا عليه وإما غلطا منه.

لكن إذا نقل عن رجل له قبول في الإسلام، كان الضلال به أكثر بخلاف ما ينقل عن الحلاج وأمثاله، فإن القائل قد قتل على الزندقة، ومن قتل على الزندقة سقطت حرمة أقواله.

وينبغي أن يكون عند المسلم من هذا قاعدة عامة، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، لا يقول على الله إلا الحق، ولا يخرج من بين شفتيه إلا حق، وهو حجة الله على عباده. هذا قول مالك بن أنس الإمام رضي الله عنه: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنه ليس لأحد من المشايخ والعلماء أو [ ص: 461 ] الملوك أو الأمراء أو غيرهم طريق إلى الله غير اتباعه [ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقا إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا فلم يتابعه] فهو كافر.

التالي السابق


الخدمات العلمية