الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا كان الله تعالى قد أمر ولاة الأمور بأداء الأمانات والحكم بالعدل; والأمانات هي: الولايات والأموال، فالأصل في الولايات القوة والأمانة، وإذا تعذر ذلك عمل الممكن، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، قال الله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم [التغابن: 16]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

وأصل ذلك أن يولي الرجل أصلح من يقدر عليه، وإن لم يوجد الأصلح إلا وفيه نوع من العجز أو الفجور; فهذا هو الواجب، بخلاف من قدم المفضول لجهل أو هوى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من قلد رجلا عملا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين» رواه الحاكم في « صحيحه». [ ص: 237 ]

وأما الأموال المشتركة كلها; من مال الفيء، والصدقات المفروضة، والصدقات الموقوفة، والأموال التي يقبضها الولاة لبيت المال من أموال الرعية بتأويل أو ظلم وتعذر ردها إلى مستحقيها.

فمال الفيء الذي أفاء الله على رسوله من أهل القرى، مثل أكثر الأرض السلطانية الداخلة في الإقطاعات وما لها من خراج قديم أو جديد هو مثل الحكر، ومثل مال الجزية، وما يقبض من أموال أهل الحرب بصلح أو بتجارة.

والصدقات مثل عشور الغلات، وزكاة الماشية التي قد كتبها العداد، وزكاة أموال التجار التي تؤخذ من المسافرين بدور الزكاة.

وسائر الأموال السلطانية معروفة، والأموال الموقوفة التي يتقلدها غالبا الحاكم أو ناظر حاضر، كأوقاف المساجد والمدارس، والربط والزوايا، وما يطلق أيضا من بيت المال لهذه الجهات.

كل هذه الأموال المشتركة تستحق بأحد ثلاثة أسباب: منفعة الرجل للمسلمين، أو حاجته، أو سابقته. [ ص: 238 ]

وقد ذكر عمر بن الخطاب أمير المؤمنين -رضي الله عنه- ذلك فقال: « إنه ليس أحد بأحق بهذا المال من أحد، إنما هو الرجل وغناؤه، والرجل وبلاؤه، والرجل وفاقته، والرجل وسابقته». فهذا ذكره في مال الفيء ونحوه من الأموال السلطانية.

فالرجل وبلاؤه; هم المقاتلة في سبيل الله حمال السلاح، يرزقون من مال الله تعالى -مال الفيء وغيره- ما أعطاهم الله ورسوله.

والرجل وغناؤه; مثل ولاة الأمور، [و] ولاة الحرب، مثل نواب السلطان، ووالي الشرطة، الذين يقيمون الحدود، ويخلصون الحقوق، ويحفظون الطرقات، ويدفعون ظلم الظالم عن المظلوم، وهم الشادون لأمر الله ورسوله الذي جاء به الكتاب والسنة.

ومثل ولاة الأموال الكتاب والجباة وغيرهم من العمال، كما ذكرهم الله تعالى في كتابه.

ومثل ولاة الحكم والقضاة الذين يفصلون الخصومات، ويتولون ما يتولونه من العقود والفسوخ، وحفظ أموال اليتامى والغائبين، والنظر في الأوقاف وإجرائها على شروط واقفيها، وغير ذلك من مصالح المسلمين. [ ص: 239 ]

وكذلك أمر المساجد والمؤذنين، والمفتون والمعلمون، ومقرئو القرآن، ومبلغو الأحاديث النبوية، والمشايخ الذين يؤدبون الناس، ويأمرونهم بما أمر الله به ورسوله كل هؤلاء لهم غناء عن المسلمين، لقيامهم في مصالح دينهم ودنياهم.

والقسم الثاني: الفقراء والمحاويج، والغارمون، وأبناء السبيل، وغيرهم، فيعطون لحاجتهم وفقرهم.

والثالث: ذوو السابقة الذين استحقوا بالنسب، كاستحقاق ذوي القربى، قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخمس والفيء. واستحقاق ذرية الأجناد إذا مات آباؤهم، فإنه ينفق على صغار ولده، حتى يبلغ ذكرهم وتتزوج أنثاهم، وعلى امرأته حتى تتزوج.

ومثل الوقف الموقوف على بني فلان، إما رجل وقف على ذريته أو ذرية غيره، كرجل صالح أو صاحب له أو غير ذلك.

فأهل الزكوات إما من يأخذ لحاجته كالفقراء والغارمين وابن السبيل، أو لمنفعته كالعامل والغازي.

وكذلك أهل الأوقاف الحكمية، مستحقها إما صاحب منفعة كالإمام والمؤذن والمدرس، وإما محتاج كالموقف على الفقراء والمساكين، وكذلك أموال الفيء وغيره من المصالح. [ ص: 240 ]

هذا هو الأصل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وهو الذي يعتمده ولاة الأمور في أداء الأمانات إلى أهلها. وبذلك تنتظم مصلحتهم في الدنيا والآخرة، وما لا يدرك كله لا يترك كله.

فهذه قاعدة كلية جامعة لولاة أمور المسلمين، فإن جميع هذه الأمور داخلة في حكم الكتاب والسنة، وسنة الخلفاء الراشدين.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى بنفسه في المدينة المصالح العامة; من تعليم العلم، والقضاء والجهاد، واستيفاء الحساب على العمال، حتى ثبت عنه في « الصحيح» أنه استعمل رجلا على الصدقة، فلما رجع حاسبه، وهو استيفاء الحساب.

وكان له من هو بمنزلة صاحب الشرطة; ففي « الصحيح» عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان قيس بن سعد بن عبادة من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير.

وكان له الكتاب يكتبون الوحي والعلم، ويكتبون العهود والشروط، ويكتبون الرسائل والعطايا والولايات. كتب له أبو بكر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه، وعثمان وعلي رضي الله عنهما، وزيد بن ثابت، [ ص: 241 ] ومعاوية وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.

فكتاب الوحي يشبههم من بعض الوجوه كتاب العلم في هذا الزمان. وكتاب العهود والشروط يشبههم كتاب الشروط التي بين الناس عند الحكام وغيرهم. وكتاب الرسائل والعطايا والولايات يشبههم كتاب الإنشاء.

وكان يؤمر الأمراء على البلاد، فلما انتشرت الرعية في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وضع الديوان ديوان العطايا والنفقات، وديوان الخراج الأول مثل ديوان المجاهدين، وديوان الذرية الذين ليسوا بمجاهدين من النساء والصبيان، وديوان الخراج الذي يجمع الأموال المستخرجة.

وجعل له على المصر ثلاثة ولاة: والي الحرب، ووالي المال، ووالي الحكم. كما استعمل على الكوفة ثلاثة; فولى عمار بن ياسر على الحرب. وأمير الحرب هو الذي كان يصلي بالناس. وعبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال، وعثمان بن حنيف على الخراج، وهو المال. وكان زيد بن ثابت على ديوان الجيش والعطاء.

وهذه الولايات الثلاثة هي قوام الأمة، لكن دخل في ذلك زيادة ونقصان وتغيير، تارة بحسب الرأي والمصلحة، وتارة بحسب الهوى والشهوة، وتارة بمجموعهما.

فالله تعالى يوفق ولاة أمور المسلمين وعامتهم لما يحبه ويرضاه [ ص: 242 ] من القول والعمل، ويعينهم على مصالح الدنيا والآخرة.

وحامل هذه التحية الشيخ القدوة تقي الدين ابن الشيخ محمد بن الشيخ الكبير الشيخ عثمان ... هو وإخوته أهل بيت خير ودين ومنفعة للناس في دينهم ودنياهم، وقد لزمهم بسبب حاجتهم وبسبب خدمتهم للناس ديون، ولهم حق في الأموال المشتركة الثلاثة، تارة من جهة حاجتهم، وتارة من جهة منفعتهم، وتارة من جهة سابقتهم. فإذا عومل هؤلاء بما لهم وأوصل إليهم ما يستحقونه كان ذلك مما يجلب لصاحبه الدعاء المستجاب، والثناء المستطاب، وجزيل الأجر والثواب، فخير المعروف ما وافق محله.

والله هو المسؤول أن يعين ولاة الأمور وسائر المسلمين على مصالح الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتبه لنفسه محمد بن أحمد بن علي الخطيب في رابع عشري شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبعمائة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية