الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الباب الثاني في شروط الراوي وصفته .

              وإذا ثبت وجوب العمل بخبر الواحد فاعلم أن كل خبر فليس بمقبول وافهم أولا أنا لسنا نعني بالقول التصديق ولا بالرد التكذيب ، بل يجب علينا قبول قول العدل وربما كان كاذبا أو غالطا ، ولا يجوز قبول قول الفاسق وربما كان صادقا . بل نعني بالمقبول ما يجب العمل به وبالمردود ما لا تكليف علينا في العمل به والمقبول رواية كل مكلف عدل مسلم ضابط منفردا كان بروايته أو معه غيره ، فهذه خمسة أمور لا بد من النظر فيها .

              الأول : أن رواية الواحد تقبل وإن لم تقبل شهادته ، خلافا للجبائي وجماعة حيث شرطوا العدد ولم يقبلوا إلا قول رجلين . ثم لا تثبت رواية كل واحد إلا من رجلين آخرين وإلى أن ينتهي إلى زماننا يكثر كثرة عظيمة لا يقدر معها على إثبات حديث أصلا وقال قوم : لا بد من أربعة أخذا من شهادة الزنا .

              ودليل بطلان مذهبهم أنا نقول : إذا [ ص: 124 ] ثبت قبول قول الآحاد مع أنه لا يفيد العلم فاشتراط العدد تحكم لا يعرف إلا بنص أو قياس على منصوص ولا سبيل إلى دعوى النص وما نقل عن الصحابة من طلب استظهار فهو في واقعتين أو ثلاث لأسباب ذكرناها أما ما قضوا فيه بقول عائشة وحدها وقول زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم فهو خارج عن الحصر فقد علمنا قطعا من أحوالهم قبول خبر الواحد كما علمنا قطعا رد شهادة الواحد ، وإن أخذوا من قياس الشهادة فهو قياس باطل إذ عرف من فعلهم الفرق ولم لا يقاس عليه في شرط الحرية والذكورة واشترط في أخبار الزنا أربعة وفيما يتعلق برؤية الهلال وشهادة القابلة واحد ؟ والمصير إلى ذلك خرق للإجماع ، ولا فرق إن وجب القياس .

              الشرط الثاني : وهو الأول تحقيقا ، فإن العدد ليس عندنا من الشروط وهو التكليف ، فلا تقبل رواية الصبي لأنه لا يخاف الله تعالى فلا وازع له من الكذب فلا تحصل الثقة بقوله ، وقد اتبعوا في قبول الشهادة سكون النفس وحصول الظن ، والفاسق أوثق من الصبي ، فإنه يخاف الله تعالى وله وازع من دينه وعقله والصبي لا يخاف الله تعالى أصلا فهو مردود بطريق الأولى .

              والتمسك بهذا أولى من التمسك برد إقراره ، وإنه إذا لم يقبل قوله فيما يحكيه عن نفسه فبأن لا يقبل فيما يرويه عن غيره أولى ، فإن هذا يبطل بالعبد فإنه قد لا يقبل إقراره وتقبل روايته . فإن كان سببه أنه يتناول ملك السيد وملك السيد معصوم عنه فملك الصبي أيضا محفوظ عنه لمصلحته ، فما لا يتعلق به قد يؤثر فيه قوله بل حاله حتى يجوز الاقتداء به اعتمادا على قوله إنه طاهر وعلى أنه لا يصلي إلا طاهرا ، لكنه كما يجوز الاقتداء بالبر والفاجر فكذلك بالصبي والبالغ ، وشهادة الفاسق لا تقبل والصبي أجرأ على الكذب منه .

              أما إذا كان طفلا مميزا عند التحمل بالغا عند الرواية فإنه يقبل لأنه لا خلل في تحمله ولا في أدائه ويدل على قبول سماعه إجماع الصحابة على قبول خبر ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة من غير فرق بين ما تحملوه بعد البلوغ أو قبله ، وعلى ذلك درج السلف والخلف من إحضار الصبيان مجالس الرواية ومن قبول شهادتهم فيما تحملوه في الصغر .

              فإن قيل فقد قال بعض العلماء تقبل شهادة الصبيان في الجنايات التي تجري بينهم . قلنا : ذلك منه استدلال بالقرائن إذا كثروا وأخبروا قبل التفرق ، أما إذا تفرقوا فيتطرق إليهم التلقين الباطل ولا وازع لهم ، فمن قضى به فإنما قضى به لكثرة الجنايات بينهم ولمسيس الحاجة إلى معرفته بقرائن الأحوال فلا يكون ذلك على منهاج الشهادة .

              الشرط الثالث : أن يكون ضابطا ، فمن كان عند التحمل غير مميز أو كان مغفلا لا يحسن ضبط ما حفظه ليؤديه على وجهه فلا ثقة بقوله وإن لم يكن فاسقا .

              الشرط الرابع : أن يكون مسلما ، ولا خلاف في أن رواية الكافر لا تقبل لأنه متهم في الدين وإن كان تقبل شهادة بعضهم على بعض عند أبي حنيفة . ولا يخالف في رد روايته ، والاعتماد في ردها على الإجماع المنعقد على سلبه أهلية هذا المنصب في الدين وإن كان عدلا في دين نفسه وهو أولى من قولنا الفاسق مردود الشهادة والكفر أعظم أنواع الفسق ، وقد قال تعالى .

              { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا } لأن الفاسق متهم لجرأته على المعصية ، والكافر المترهب قد لا [ ص: 125 ] يتهم لكن التعويل على الإجماع في سلب الكافر هذا المنصب . فإن قيل : هذا يتجه في اليهود والنصارى ومن لا يؤمن بديننا ، إذ لا يليق في السياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه ، فما قولكم في الكافر المتأول وهو الذي قد قال ببدعة يجب التكفير بها فهو معظم للدين وممتنع من المعصية وغير عالم بأنه كافر ، فلم لا تقبل روايته وقد قبل الشافعي رواية بعض أهل البدع وإن كان فاسقا ببدعته لأنه متأول في فسقه ؟ قلنا : في رواية المبتدع المتأول كلام سيأتي ، وأما الكافر وإن كان متأولا فلا تقبل روايته لأن كل كافر متأول ، فإن اليهودي أيضا لا يعلم كونه كافرا .

              أما الذي ليس بمتأول وهو المعاند بلسانه بعد معرفة الحق بقلبه فذلك مما يندر ، وتورع المتأول عن الكذب كتورع النصراني فلا ينظر إليه ، بل هذا المنصب لا يستفاد إلا بالإسلام ، وعرف ذلك بالإجماع لا بالقياس

              التالي السابق


              الخدمات العلمية