الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              . الشرط الخامس : العدالة قال الله تعالى { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } وهذا زجر عن اعتماد قول الفاسق ودليل على شرط العدالة في الرواية والشهادة ، والعدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه ، فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازعا عن الكذب .

              ثم لا خلاف في أنه يشترط العصمة من جميع المعاصي . ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصدا . وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرئ على الكذب بالأعراض الدنيوية ، كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات الفادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل وإفراط المزح ؟ والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم ، فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به وما لا فلا ، وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين ، وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول .

              ورب شخص يعتاد الغيبة ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه ، ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا ، فقبوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه ، ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض .

              ويتفرع عن هذا الشرط مسألتان :

              مسألة : قال بعض أهل العراق ، العدالة عبارة عن إظهار الإسلام فقط مع سلامته عن فسق ظاهر فكل مسلم مجهول عنده عدل ، وعندنا لا تعرف عدالته إلا بخبرة باطنة والبحث عن سيرته وسريرته .

              ويدل على بطلان ما قالوه أمور :

              الأول : أن الفاسق مردود الشهادة والرواية بنص القرآن ولعلمنا بأن دليل قبول خبر الواحد قبول الصحابة إياه وإجماعهم ولم ينقل ذلك عنهم إلا في العدل ، والفاسق لو قبلت روايته لقبل بدليل الإجماع أو بالقياس على العدل المجمع عليه ، ولا إجماع في الفاسق ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بقوله ، فصار الفسق مانعا من الرواية كالصبا والكفر وكالرق في الشهادة ، ومجهول الحال في هذه الخصال لا يقبل قوله فكذلك مجهول الحال في الفسق لأنه إن كان فاسقا فهو مردود الرواية وإن كان عدلا فغير مقبول أيضا للجهل به ، كما لو شككنا في صباه ورقه وكفره ، ولا فرق .

              الثاني : أنه لا تقبل شهادة المجهول وكذلك روايته ، وإن منعوا شهادة المال فقد سلموا شهادة [ ص: 126 ] العقوبات .

              ثم المجهول مردود في العقوبات ، وطريق الثقة في الرواية والشهادة واحد وإن اختلفا في بقية الشروط

              الثالث : أن المفتي المجهول الذي لا يدرى أنه بلغ رتبة الاجتهاد أم لا ، لا يجوز للعامي قبول قوله ، وكذلك إذا لم يدر أنه عالم أم لا ، بل سلموا أنه لو لم تعرف عدالته وفسقه فلا يقبل ، وأي فرق بين حكاية المفتي عن نفسه اجتهاده وبين حكايته خبرا عن غيره .

              الرابع : أن شهادة الفرع لا تسمع ما لم يعين الفرع شاهد الأصل ، وهو مجهول عند القاضي فلم يجب تعيينه وتعريفه إن كان قول المجهول مقبولا .

              وهذا رد على من قبل شهادة المجهول ، ولا جواب عنه . فإن قيل : يلزمه ذكر شاهد الأصل ، فلعل القاضي يعرفه بفسق فيرد شهادته . قلنا : إذا كان حد العدالة هو الإسلام من غير ظهور فسق فقد تحقق ذلك فلم يجب التتبع حتى يظهر الفسق . ثم يبطل ما ذكره بالخبر المرسل ، فإنهم لم يوجبوا ذكر الشيخ ولعل المروي له يعرف فسقه .

              الخامس : أن مستندنا في خبر الواحد عمل الصحابة وهم قد ردوا خبر المجهول ، فرد عمر رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس وقال : كيف نقبل قول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت ورد علي خبر الأشجعي في المفوضة وكان يحلف الراوي ، وإنما يحلف من عرف من ظاهره العدالة دون الفسق . ومن رد قول المجهول منهم كان لا ينكر عليه غيره فكانوا بين راد وساكت ، وبمثله ظهر إجماعهم في قبول العدل إذ كانوا بين قابل وساكت غير منكر ولا معترض .

              السادس : ما ظهر من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه العدالة والعفاف وصدق التقوى ممن كان ينفذه للأعمال وأداء الرسالة ، وإنما طلب الأشد التقوى لأنه كان قد كلفهم أن لا يقبلوا إلا قول العدل . فهذه أدلة قوية في محل الاجتهاد قريبة من القطع ، والمسألة اجتهادية لا قطعية . شبه الخصوم ، وهي أربع :

              الأولى : أنه صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الأعرابي وحده على رؤية الهلال ولم يعرف منه إلا الإسلام .

              قلنا : وكونه أعرابيا لا يمنع كونه معلوم العدالة عنده إما بالوحي وإما بالخبرة وإما بتزكية من عرف حاله ، فمن يسلم لكم أنه كان مجهولا عنده

              الثانية : أن الصحابة قبلوا قول العبيد والنسوان والأعراب لأنهم لم يعرفوهم بالفسق وعرفوهم بالإسلام . قلنا : إنما قبلوا قول أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواج أصحابه وكانت عدالتهن وعدالة مواليهم مشهورة عندهم وحيث جهلوا ردوا ، كرد قول الأشجعي وقول فاطمة بنت قيس .

              الثالثة : قولهم لو أسلم كافر وشهد في الحال أو روى ، فإن قلتم لا نقبل شهادته فهو بعيد ، وإن قبلتم فلا مستند للقبول إلا إسلامه وعدم معرفة الفسق منه ، فإذا انقضت مدة ولم نعرف منه فسقا لطول مدة إسلامه لم نوجب رده . قلنا : لا نسلم قبول روايته فقد يسلم الكذوب ويبقى على طبعه ، فما لم نطلع على خوف في قلبه وازع عن الكذب لا نقبل شهادته ، والتقوى في القلب وأصله الخوف وإنما تدل عليه أفعاله في مصادره وموارده فإن سلمنا قبول روايته فذلك لطرق إسلامه وقرب عهده بالدين ، وشتان بين من هو في طراوته وبدايته وبين من قسا قلبه بطول الإلف .

              فإن قيل : إذا رجعت العدالة إلى هيئة باطنة في النفس وأصلها الخوف ، وذلك لا يشاهد بل يستدل عليه بما ليس بقاطع ، بل هو مغلب على الظن ، فأصل ذلك الخوف هو الإيمان ، فذلك يدل على الخوف دلالة - [ ص: 127 ] ظاهرة فلنكتف به . قلنا : لا يدل عليه ، فإن المشاهدة والتجربة دلت على أن عدد فساق المؤمنين أكثر من عدد عدولهم ، فكيف نشكك نفوسنا فيما عرفناه يقينا ؟ ثم هلا اكتفي بذلك في شهادة العقوبات وشهادة الأصل وحال المفتي في العدالة وسائر ما سلموه

              الرابعة : قولهم : يقبل قول المسلم المجهول في كون اللحم لحم ذكي وكون الماء في الحمام طاهرا وكون الجارية المبيعة رقيقة غير متزوجة ولا معتدة حتى يحل الوطء بقوله ، وقول المجهول في كونه متطهرا للصلاة عن الحدث والجنابة إذا أم الناس ، وكذلك قول من يخبر عن نجاسة الماء وطهارته بناء على ظاهر الإسلام ، وكذلك قول من يخبر الأعمى عن القبلة .

              قلنا : أما قول العاقد فمقبول لا لكونه مجهولا لكنه مع ظهور الفسق ، وذلك رخصة لكثرة الفساق ولمسيس حاجتهم إلى المعاملات ، وكذلك جواز الاقتداء بالبر والفاجر فلا يشترط الستر ، أما الخبر عن القبلة وعن طهارة الماء فما لم يحصل سكون النفس بقول المخبر فلا يجب قبوله ، والمجهول لا تسكن النفس إليه بل سكون النفس إلى قول فاسق جرب باجتناب الكذب أغلب منه إلى قول المجهول وما يخص العبد بينه وبين الله تعالى فلا يبعد أن يرد إلى سكون نفسه .

              فأما الرواية والشهادة فأمرهما أرفع وخطرهما عام ، فلا يقاسان على غيرهما ، وهذه صور ظنية اجتهادية ، أما رد خبر الفاسق والمجهول فقريب من القطع .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية