الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة إذا اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة انعقد الإجماع ووجبت عصمتهم عن الخطأ . وقال قوم : لا بد من انقراض العصر وموت الجميع .

              وهذا فاسد ; لأن الحجة في اتفاقهم لا في موتهم وقد حصل قبل الموت فلا يزيده الموت تأكيدا ، وحجة الإجماع الآية والخبر ، وذلك لا يوجب اعتبار العصر . فإن قيل : ما داموا في الأحياء فرجوعهم متوقع وفتواهم غير مستقرة . قلنا : والكلام في رجوعهم فإنا لا نجوز الرجوع من جميعهم ; إذ يكون أحد الإجماعين خطأ وهو محال ، أما بعضهم فلا يحل له الرجوع ; لأنه برجوعه خالف إجماع الأمة التي وجبت عصمتها عن الخطأ .

              نعم يمكن أن يقع الرجوع من بعضهم ويكون به عاصيا فاسقا والمعصية تجوز على بعض الأمة ولا تجوز على الجميع . فإن قيل : كيف يكون مخالفا للإجماع وبعد ما تم الإجماع ، وإنما يتم بانقراض العصر ؟ قلنا : إن عنيتم به أنه لا يسمى إجماعا فهو بهت على اللغة والعرف ، وإن عنيتم أن حقيقته لم تتحقق فما حده ؟ وما الإجماع إلا اتفاق فتاويهم ، والاتفاق قد حصل وما بعد ذلك استدامة للاتفاق لا إتمام للاتفاق .

              ثم نقول : كيف يدعى ذلك ونحن نعلم أن التابعين في زمان بقاء أنس بن مالك وأواخر الصحابة كانوا يحتجون بإجماع الصحابة ولم يكن جواز الاحتجاج بالإجماع مؤقتا بموت آخر الصحابة ; ولهذا قال بعضهم : يكفي موت الأكثر ، وهو تحكم آخر لا مستند له . ثم نقول : هذا يؤدي إلى تعذر الإجماع ، فإنه إن بقي واحد من الصحابة جاز للتابعي أن يخالف إذا لم يتم الإجماع وما دام واحد من عصر التابعين أيضا لا يستقر الإجماع منهم فيجوز لتابعي الخلاف .

              وهذا خبط لا أصل له . ولهم شبه .

              الشبهة الأولى : قولهم : إنه ربما قال بعضهم ما قاله عن وهم وغلط فيتنبه له ، فكيف يحجر عليه في الرجوع عن الغلط ؟ وكيف يؤمن ذلك باتفاق يجري في ساعة واحدة ؟ قلنا : وبأن يموت من أين يحصل أمان من غلطه ؟ وهل يؤمن من الغلط إلا دلالة النص على وجوب عصمة الأمة ؟ وأما إذا رجع وقال : تبينت أني غلطت فنقول : إنما يتوهم عليك الغلط إذا انفردت ، وأما ما قلته في موافقة الأمة فلا يحتمل الخطأ .

              فإن قال : تحققت أني قلت : ما قلته دليل كذا ، وقد انكشف لي خلافه قطعا ، فنقول : إنما أخطأت في الطريق لا في نفس المسألة ، بل موافقة الأمة تدل على أن الحكم حق ، وإن كنت في طريق الاستدلال مخطئا .

              الشبهة الثانية : أنهم ربما قالوا عن اجتهاد وظن ، ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يرجع ، وإذا جاز الرجوع دل أن الإجماع لم يتم .

              قلنا : لا حجر على المجتهد في الرجوع إذا انفرد باجتهاده ، أما ما وافق فيه اجتهاده اجتهاد الأمة فلا يجوز الخطأ فيه ويجب كونه حقا والرجوع عن الحق ممنوع . [ ص: 153 ]

              الشبهة الثالثة : أنه لو مات المخالف لم تصر المسألة إجماعا بموته والباقون هم كل الأمة ، لكنهم في بعض العصر ، فلذلك لا يصير مذهب المخالف مهجورا ، فإن كان العصر لا يعتبر فليبطل مذهب المخالف .

              قلنا : قال قوم : يبطل مذهبه ويصير مهجورا ; لأن الباقين هم كل الأمة في ذلك الوقت . وهو غير صحيح عندنا ، بل الصحيح أنهم ليسوا كل الأمة بالإضافة إلى تلك المسألة التي أفتى فيها الميت ، فإن فتواه لا ينقطع حكمها بموته . وليس هذا للعصر فإنه جار في الصحابي الواحد إذا قال : قولا وأجمع التابعون في جميع عصرهم على خلافه فقد بينا أنه لا يبطل مذهبه ; لأنهم ليسوا كل الأمة بالإضافة إلى هذه المسألة .

              الشبهة الرابعة : ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : " اجتمع رأيي ورأي عمر على منع بيع أمهات الأولاد ، وأنا الآن أرى بيعهن " فقال عبيدة السلماني : رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة . قلنا : لو صح إجماع الصحابة قاطبة لما كان هذا يدل من مذهب علي على اشتراط انقراض العصر ، ولو ذهب إلى هذا صريحا لم يجب تقليده ، كيف ولم يجتمع إلا رأيه ورأي عمر كما قال ؟ وأما قول عبيدة : رأيك في الجماعة ، ما أراد به موافقة الجماعة إجماعا ، وإنما أراد به أن رأيك في زمان الألفة والجماعة والاتفاق والطاعة للإمام أحب إلينا من رأيك في الفتنة والفرقة وتفرق الكلمة وتطرق التهمة إلى علي في البراءة من الشيخين رضي الله عنهما ، فلا حجة فيما ليس صريحا في نفسه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية