فصل .
. اختيار الإمام
63 - ونحن بعد تقديم ذلك نخوض في إثبات الاختيار فنقول :
اتفق المنتمون إلى الإسلام على تفرق المذاهب ، وتباين المطالب ، على ، ثم أطبقوا على أن سبيل إثباتها النص أوالاختيار ، وقد تحقق بالطرق القاطعة والبراهين اللامعة بطلان مذاهب أصحاب النصوص ، فلا يبقى بعد هذا التقسيم والاعتبار إلا الحكم بصحة الاختيار ، وإن أردنا أن نعتمد إثبات الاختيار من غير التفات إلى إبطال مذاهب مدعي النصوص أسندناه إلى الإجماع قائلين : ثبوت الإمامة
[ ص: 55 ] 64 - إن الخلفاء الراشدين انقضت أيامهم ، وتصرمت نوبهم ، وانسحبت على قمم المسلمين طاعتهم ، وكان مستند أمورهم صفقة البيعة .
فأما أبو بكر - رضي الله عنه - فقد تواترت البيعة له يوم السقيفة ، وكان عمر - رضي الله عنه - ولي عهده ، وتعين عثمان - رضي الله عنه - من الستة المذكورة في الشورى بالبيعة ، ولما انتهت النوبة إلى علي - رضي الله عنه - طلب البيعة ، فأول من بايعه طلحة ، والزبير ، ومن حاول بسط مقال في إيضاح استناد الأئمة الماضين إلى البيعة كان متكلفا مشتغلا بما يغني الظهور والتواتر عنه ، وقد قدمنا أن الإجماع هو المعتصم الأقوى ، والمتعلق الأوفى ، في قواعد الشريعة ، وهو الوسيلة والذريعة ، إلى اعتقاد قاطع سمعي كما سبق في إثبات الإجماع تقريره .
65 - فإن قيل هذا تدليس وتلبيس ; فإنكم قدمتم في خلل [ ص: 56 ] الكلام الذي سقتموه في الإجماع أن ما يتفق من اجتماع في الإيالات الملكية ، والسياسات القهرية ، وما يفرض فيها من إذعان جماعة وبذل طاعة لا يشعر بحق ولا باطل ، وميزتم الإجماع من هذه المسالك برده إلى اجتماع في حكم الواقعة ، وزعمتم أن ذلك يقتضي قضية جامعة ، ثم عدتم فاستدللتم في الإمامة بالإجماع ، وهي أعلى مراتب الدول ، وأرفع المناصب ، وهذا تناقض واضح ، وتهافت في الكلام لائح .
قلنا : هذا كلام من يبغي الأسماء والألقاب ، ويؤثر الإضراب عن لباب الألباب . وكأن السائل يرانا ندير ذكر الولاية ، فاستمسك بهذه الصيغة من غير إحاطة ودراية ، وذهل عن المقصد والنهاية ، وهذا الفن يعود المتعلق به إلى ملتطم العماية ، وظلمات الغواية ، فنقول : محل تعلقنا بالإجماع أن الهم بالبيعة والإقدام عليها في الزمان المتطاول كان أمرا جازما يستند إليه مقاليد الولايات قبل استمرارها ، ويربط به عقد الولاية والرايات قبل استقرارها ، ثم تناقله الخلائق على تفنن الطرائق ، ولم يبد أحد من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكيرا ، ويستحيل ذلك من غير قاطع أحاط به المجمعون .
66 - نعم . إنما يجري باتباع ذوي الأمر على الحق أو [ ص: 57 ] الباطل - العرف . وإذا استقر الملك في النصاب ، وأذعنت الرقاب ، واستتبت الأسباب ، فإذ ذاك قد يحمل الرعية على قضية قهرية ; فيتواطئون طوعا وكرها ، ولا يرون للانسلال عن طاعته وجها . فلما توفي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لم يخلفه ذو نجدة واقتهار ، وصاحب أيد ومنة واقتسار تولى بعدد وعدد ، وأشياع وأنصار ، وترك الناس على نفوس أبية ، وهمم عن القماءة والذلة علية ، وطرائق في اتباع الحق مرضية ، وهم على خيرتهم فيما يذرون ويأتون ، فاستمسكوا بالبيعة في الأمر الأعظم الأهم ، والخطب الأطم ، ولم يختلفوا فيها وإنما ترددوا في تعيين المختار ، ثم استقاموا لياذا ، وما كان لياذ الماضين بالبيعة في ماضي الدهر صادرا عن جامع قهري ، بل كانت متقدمة على الإمامة ، ثم بعدها الاتباع واتساق الطاعة ، فلم يبق إشكال في انعقاد الإجماع على الاختيار ، وبطلان المصير على ادعاء النص .
67 - فإن قيل : قد حصرتم عقد الإمامة في الاختيار ، وأجريتم في أثناء الكلام تولية العهد الصادر من الإمام .
[ ص: 58 ] قلنا : سيأتي ذكر ذلك موضحا منقحا مصححا في بابه ، ولكنا لما أردنا أن نتكلم في أصل الإمامة حصرناها بعد بطلان النص في الاختيار ، والتولية في العهود لا تكون إلا بعد ثبوت الإمامة . فهذا ما أردنا أن نبين . والله الموفق للصواب .