153 - فأقول : إن عسر القبض على يده الممتدة لاستظهاره [ ص: 108 ] بالشوكة العتيدة ، والعدد المعدة ، فقد شغر الزمان عن القيام بالحق ، ودفع إلى مصابرة المحن طبقات الخلق ، ووقع الكلام في أحد مقصودي الكتاب ; إذ هذا المجموع مطلوبه أمران : أحدهما : بيان . أحكام الله - عز وجل - عند خلو الزمن عن الأئمة
والثاني : إيضاح متعلق العباد عند عرو البلاد عن المفتين المستجمعين لشرائط الاجتهاد .
وما عدا هذين المقصودين في حكم المقدمات .
154 - وإنما اضطررت إلى كشف أحكام الولاة إذا وجدوا ; لأتوصل إلى بيان غرضي إذا فقدوا ; فنوجز هذا الفصل من هذا الباب إلى وصولنا إلى مقصد الكتاب ، فأما إذا تمكنا من كفاية هذا المهم ، ودفع هذا الملم ، فلنشمر فيه عن ساق الجد ، ولنسع فيه بأقصى الجهد ، وليس الخوض في ذلك [ ص: 109 ] بالهين اللين ، فلا يثورن على الأمراء من غير بصيرة دين .
155 - فأقول : إن تيسر نصب إمام مستجمع للخصال المرضية ، والخلال المعتبرة في رعاية الرعية ، تعين البدار إلى اختياره ، فإذا انعقدت له الإمامة ، واتسقت له الطاعة على الاستقامة ، فهو إذ ذاك يدرأ من كان ، وقد بان الآن أن تقديم درئه في مهمات أموره ، فإن أذعن ، فذاك ، وإن تأبى عامله معاملة الطغاة ، وقابله مقابلة البغاة .
156 - ولا مطمع للخوض في هذا ، فإن أحكام البغاة يحويها كتاب من كتب الفقه ، فلتطلب من موضعها ، وإن علمنا أنه لا يتأتى نصب إمام دون اقتحام داهية وإراقة دماء ، ومصادمة أحوال جمة الأهوال ، وإهلاك أنفس ونزف أموال ، فالوجه أن يقاس ما الناس مدفوعون إليه مبتلون به بما [ ص: 110 ] يفرض وقوعه في محاولة دفعه ، فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يقدر وقوعه في روم الدفع ، فيجب احتمال المتوقع له لدفع البلاء الناجز .
157 - وإن كان المرتقب المتطلع يزيد في ظاهر الظنون إلى ما الخلق مدفوعون إليه ، فلا يسوغ التشاغل بالدفع ، بل يتعين الاستمرار على الأمر الواقع ، وقد يقدم الإمام مهما ، ويؤخر آخر . والابتهال إلى الله ، وهو ولي الكفاية .
158 - وهذا يعضده أمر لا يستريب فيه لبيب ، وهو أن طوائف من قطاع الطرق إذا كانوا يرصدون الرفاق ، ويسعون في الأرض بالفساد ، فحق على الإمام أن يلحق الطلب الحثيث بهم ، فلو بلغه اختلال في بعض الثغور ، ووطئ الكفار قطرا من أقطار الإسلام ، وعلم الإمام أن ذلك الفتق لا يلتئم إلا بصرف جميع جنود الإسلام إلى تلك الجهة ، فإنه يبدأ بذلك ، ويتربص بالقطاع الدوائر .
[ ص: 111 ] 159 - والركن الأعظم في الإيالة البداية بالأهم فالأهم ، وعلى هذا الوجه تترتب منابذة الكفار ، ومقاتلتهم ، كما قال الله تعالى " ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ) .
وعلى هذه القاعدة ينبني مهادنة الكفار عشر سنين ، إذا استشعر الإمام من المسلمين ضعفا .
160 - فإن قيل : مبنى هذا الكلام على طلب مصلحة المسلمين ، وارتياد الأنفع لهم ، واعتماد خير الشرين إذا لم يتمكن من دفعهما جميعا ، وسيرة علي - رضي الله عنه - في معاوية ومتبعيه تخالف ذلك ، فإن المزية التي كانت تفوت أهل مصر والشام من انقطاع نظر أمير المؤمنين علي عنهم لا يقابلها قتل مائة ألف من المسلمين .
فلو كان المرعي في ذلك الموازنة بين رتب المصالح ، لكان ذلك يقتضي أن ينحجز علي عن بعض جده ، ويكف من غربه وحده .
فإذا كان - رضي الله عنه - جادا مستهينا بكثرة القتلى والصرعى ، [ ص: 112 ] غير محتفل بأن يقتل أضعاف الذين قتلوا يقينا وقطعا ، فكأنه - رضي الله عنه - كان يرى بناء الأمر على الشهامة والصرامة ، وتنكب الاستكانة ، واجتناب المداراة والمداجاة ، وكان لا يلين ولا يستكين ; ولا تغض الدواهي إذا سيم مخالفة الحق من شماسه ، ولا ينحط عن الدعاء إلى الحق ، والسيف مسلول على رأسه ، وكان شوفه دعاء الخلق إلى اللقم الواضح والسبيل اللائح ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن وليتموها عليا فليحملنكم على المحجة الغراء ولو وضع على رقبته السيف " ، ولا يبعد مسلكه عن مدرك الحق ، فإن هذا مؤيد الملة بنصر الله تعالى .
161 - قلنا قد صار أولا طوائف من جلة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى التخلف عن القتال في زمن علي - رضي الله عنه - [ ص: 113 ] وإيثار السكون ، لركون إلى السلامة ، والتباعد عن ملتطم الغوائل ، منهم ، سعد بن أبي وقاص ، وكانا من العشرة المبشرين بالجنة ، وممن تخلف أولا وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، أبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن عمر ، وأسامة بن زيد ، وتبع هؤلاء أمم من الصحابة ، ولم يشتد نكير وأبو أيوب الأنصاري علي - رضي الله عنه - عليهم . أما سعد لما ندبه أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - إلى القتال قال : " لا أخرج [ ص: 114 ] أو يكون لي سيف له لسانان ، يشهد للمؤمن بإيمانه ، وعلى المنافق بنفاقه " . وقال أسامة : " لو وضعت يا أمير المؤمنين في جوف أسد ، لدخلت معك ، ولكن لا مسامحة مع النار " وقام أبو موسى في قومه ، وكان مرموقا في اليمن ، فقال : " إني لكم ناصح أمين فلا تستغشوني ، أغمدوا سيوفكم ، وكسروا رماحكم ، واقطعوا أوتاركم ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " " . ستكون فتن كقطع الليل ، المضطجع فيها خير من القاعد ، والقاعد خير من القائم ، والقائم خير من الماشي
وكان علي - رضي الله عنه - يدر عليهم أرزاقهم وأعطيتهم من بيت المال ، ولو نقم منهم ما رأوه ، لبدأهم بنصب القتال عليهم . فلم أجد بدا من التنبيه على هذا .
162 - ثم ما ظن علي أن الأمر يفضي إلى ما أفضى إليه ، ومعظم تلك المعارك جرت عن اتفاقات ردية ، ثم اشتهر منه أنه ندم على ما قدم .
ولما تفاقم الأمر ، وكادت السيوف تفني المجاهدين وجند الله [ ص: 115 ] المؤيدين في ثغور المسلمين ، أجاب إلى التحكيم في خلعه على ما سيأتي في شرح مجاري تلك الأحوال - إن شاء الله عز وجل - في أبوابها ، فقد استبان الأصل الذي مهدناه من وجوب النظر للمسلمين في جلب النفع والدفع ، في النصب والخلع ، والله الموفق للصواب .
163 - ومما يتصل بإتمام الغرض في ذلك أن المتصدي للإمامة إذا عظمت جنايته ، وكثرت عاديته ، وفشا احتكامه واهتضامه ، وبدت فضحاته ، وتتابعت عثراته ، وخيف بسببه ضياع البيضة ، وتبدد دعائم الإسلام ، ولم نجد من ننصبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يدفع البغاة ، فلا نطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا ; فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيروا ، وكان ذلك سببا في ازدياد المحن ، وإثارة الفتن ، ولكن إن اتفق رجل [ ص: 116 ] مطاع ذو أتباع وأشياع ، ويقوم محتسبا ، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ، وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه ، فليمض في ذلك قدما . والله نصيره على الشرط المقدم في رعاية المصالح ، والنظر في المناجح ، وموازنة ما يدفع ، ويرتفع بما يتوقع .
وسيأتي هذا الفن على أبلغ وجه في البيان . والله المستعان .