616 - أنا أبو طالب : عمر بن إبراهيم بن سعيد الفقيه ، أنا أبو إسحاق : إبراهيم بن محمد بن الفتح بن عبد الله الجلي ، قال : قال بعض المتأخرين في ابتداء علم النظر : كالإنسان الذي يرى قصرا على بعد ، فيأتيه ، فيرى من قربه ما لم يكن يرى من بعده ، وكذلك إن تهيأ له الدخول إليه ، وكالإنسان الذي يكون على الأرض المستوية ، لا يرى شيئا إلا ما قاربه ، وما هو حذاءه ، غير بعيد منه ، خاصة إذا كان بين يديه نشز من الأرض أو جبل ، فإذا علا على ذلك كان كلما ارتفع وارتقى أشرف على ما لم يكن مشرفا عليه طولا وعرضا ، فإذا تكلف الصعود إلى أعلى رأس الجبل ، انكشفت له الأرض والمواضع التي لم يكن يراها قبل ذلك ، ولم يكن يقدر على رؤيتها إلا بهذا التعب والتكلف الذي صار إليه ، فيبدو له في كل خطوة من الأشياء ما لم يكن يبدو له قبل ذلك ، فكلما زاد ارتقاء ، ازداد معرفة بما لم يكن قبل ذلك رآه وكذلك العلم ، كلما تعلم المرء منه أصلا انكشف له ما فيه وشاكله وما في بابه وطريقه واستدل به على ما سواه ، إذا كان فهما ووفقه الله . " وما زال هذا العلم إذا وقف الإنسان منه على بعضه انفتح له ما وراء [ ص: 9 ] ذلك
وقد شبه صاحب أدب الجدل قبل هذا النظر والكلام بالنخل يؤبره ويقوم عليه ، فينال من ثمرته ما لا ينال عند ترك ذلك وكذلك الحديد والحجر ، ما لم يستعملهما لم تخرج النار ، ولم يوجد ما ينفع لما احتيج إلى طبخ وتسخين ، فإذا أوري خرجت النار ، فإذا وقعت في الحراق وتركت انطفأت ، وإن أمدت بنفخ وكبريت ، [ ص: 10 ] وحطب ، وغير ذلك ، كثرت وكثر نفعها ، والعلم إذا لم يستعمل ولم يذاكر به كالمسك إذا طال مكثه في الوعاء ذهب ريحه ، وكالماء الصافي إذا طال مكثه نشفته الأوعية والهواء وغيرته ، وذهبت بأكثره أو بكله ، وتغير ريحه وطعمه ، وكالبئر تحفر فتجري فيها عين ، فإن حصل له طريق حتى ينتشر صار نهرا وكثر ونفع وعاش به الحيوان ، وإن حبس وترك قل نفعه وربما غار ، فكذلك العلم ، إذا لم يذاكر به ، ولم يبحث عنه ، وإذا ذاكرت بالعلم ونشرته صار كالنهر الجاري دائم النفع ، غزير الماء ، إن قل مرة لعارض زاد أخرى ، وإن تكدر وقتا لعلة صفا في ثان وتحيا به الأرض والزرع والحيوان " .