في ذكر الخلاف في صحة وعدمها وفي جوازه وعدمه ، وقد أشار الناظم إلى هذا المقام والذي هو مزلة أقدام فقال : إيمان المقلد في العقائد
( ( وكل ما يطلب فيه الجزم فمنع تقليد بذاك حتم ) )
( ( لأنه لا يكتفى بالظن لذي الحجى في قول أهل الفن ) )
( ( وقيل يكفي الجزم إجماعا بما يطلب فيه عند بعض العلما ) )
( ( فالجازمون من عوام البشر فمسلمون عند أهل الأثر ) )
( ( وكل ما ) ) أي حكم ومطلوب مما عنه الذكر الحكمي ، وهو المعنى الذي يعبر عنه بالكلام الخبري ، وهو ما أنبأ عن أمر في نفسك من إثبات أو نفي ، والمراد هنا كل اعتقاد ( ( يطلب فيه ) ) أي ذلك الاعتقاد من معرفة الله تعالى ، وما يجب له ويستحيل عليه ، ويجوز ( ( الجزم ) ) بأن يجزم به جزما لا يحتمل متعلقه النقيض عنده لو قدره في نفسه ، فإن طابق الواقع فهو اعتقاد صحيح وإلا ففاسد ، فما كان من هذا الباب ( ( فمنع تقليد ) ) وهو لغة وضع الشيء في العنق حال كونه محيطا به ، وذلك الشيء يسمى قلادة وجمعها قلائد ، وعرفا أخذ مذهب الغير يعني اعتقاد صحته واتباعه عليه بلا دليل ، فإن أخذه بالدليل فليس بمقلد له فيه ، ولو وافقه فالرجوع إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - ليس بتقليد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - في المسودة : ، فليس المصير إلى الإجماع بتقليد ، لأن الإجماع دليل ، ولذلك يقبل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يقال تقليد ، وقد قال التقليد قبول القول بغير دليل - رضي الله عنه - في رواية أبي الحارث من قلد الخبر رجوت أن يسلم إن شاء الله تعالى فأطلق اسم التقليد على من صار إلى الخبر ، وإن كان حجة بنفسه . الإمام أحمد
انتهى ملخصا ( ( بذاك ) ) أي بما يطلب فيه الجزم ولا يكتفى فيه بالظن ( ( حتم ) ) بفتح الحاء المهملة وسكون التاء المثناة فوق أي لازم واجب ، قال علماؤنا وغيرهم يحرم التقليد في معرفة الله تعالى ، وفي التوحيد والرسالة ، وكذا في أركان الإسلام الخمس ، ونحوها مما تواتر واشتهر ، عند - رضي الله عنه - والأكثر وذكره الإمام أحمد أبو الخطاب عن عامة العلماء ، وذكر غيره أنه قول الجمهور قاله [ ص: 268 ] في شرح التحرير ، قال : وأطلق الحلواني من أصحابنا وغيره منع التقليد في أصول الدين ، واستدلوا لتحريم التقليد بأمره سبحانه وتعالى بالتدبر والتفكر والنظر .
وفي صحيح لما نزل في آل عمران " ابن حبان إن في خلق السماوات والأرض " الآيات قال - صلى الله عليه وسلم - : " ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن ، ويل له ، ويل له " .
والإجماع على وجوب معرفة الله تعالى ، ولا تحصل بتقليد لجواز كذب المخبر ، واستحالة حصولها ، كمن قلد في حدوث العالم ، وكمن قلد في قدمه ، ولأن التقليد لو أفاد علما ، فإما بالضرورة ، وهو باطل ، وإما بالنظر ، فيستلزم الدليل والأصل عدمه ، والعلم يحصل بالنظر ، واحتمال الخطأ لعدم مراعاة القانون الصحيح ، ولأن الله تعالى ذم التقليد بقوله تعالى إنا وجدنا آباءنا على أمة ولقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله فألزم الشارع بالعلم ، ويلزمنا نحن أيضا ؛ لقوله : ( واتبعوه لعلكم تهتدون ) .
فتعين طلب اليقين في الوحدانية ، ويقاس عليها غيرها ، والتقليد لا يفيد إلا الظن ، ولهذا قال معللا للمنع عنه بقوله ( ( لأنه ) ) أي الشأن والأمر والقصة ( ( لا يكتفى ) ) في أصول الدين ، ومعرفة الله رب العالمين ( ( بالظن ) ) الذي هو ترجيح أحد الطرفين على الآخر ، فالراجح هو الظن ، والمرجوح الوهم ، فلا يكتفى به في أصول الدين ( ( لذي ) ) أي لصاحب ( ( الحجى ) ) كإلى أي العقل والفطنة ( ( في قول أهل الفن ) ) من الأئمة وعلماء المنقول والمعقول من الأصوليين والمتكلمة وغيرهم .
قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين : كل ما يطلب فيه الجزم يمتنع التقليد فيه ، والأخذ فيه بالظن لأنه لا يفيده ، وإنما يفيده دليل قطعي ، قال : في شرح مختصر التحرير : وأجازه - يعني في التقليد في أصول الدين - جمع ، قال بعضهم : ولو بطريق فاسد .
قال العلامة ابن مفلح : وأجازه بعض الشافعية لإجماع السلف على قبول الشهادتين من غير أن يقال لقائلها هل نظرت ؟ وسمعه الإمام ابن عقيل ، عن أبي القاسم ابن التبان المعتزلي قال : وإنه يكتفى بطريق فاسد ، وقال هذا المعتزلي : إذا عرف الله ، وصدق رسوله ، وسكن قلبه إلى ذلك ، واطمأن به ، فلا علينا من طريق تقليد كان أو نظرا أو استدلالا ، وإلى هذا الإشارة بقوله ( ( وقيل يكفي ) ) في أصول الدين ( ( الجزم ) ) [ ص: 269 ] ولو تقليدا ( ( إجماعيا ) ) ( ( ب ) ) كل ( ( ما ) ) أي حكم ( ( يطلب ) ) بضم أوله مبنيا لما لم يسم فاعله ، ونائب الفاعل مضمر يعود على الجزم ( ( فيه ) ) أي فيه ذلك المطلوب من أصول الدين ( ( عند بعض العلماء ) ) من علماء مذهبنا والشافعية والمعتزلة وغيرهم .
قال العنبري وغيره يجوز التقليد في أصول الدين ، ولا يجب النظر اكتفاء بالعقد الجازم ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكتفي في الإيمان من الأعراب - وليسوا أهلا للنظر - بالتلفظ بكلمتي الشهادة المنبئ عن العقد الجازم ، ويقاس غير الإيمان من أصول الدين عليه .
وقال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين : وقيل يكفي الجزم يعني بالظن إجماعا بما يطلب فيه الجزم ، ( ( فالجازمون ) ) حينئذ بعقدهم ، ولو تقليدا ( ( من عوام البشر ) ) الذين ليسوا بأهل للنظر والاستدلال ، بما لا يتم الإسلام بدونه ( ( ف ) ) على الصواب هم ( ( مسلمون عند أهل الأثر ) ) وأكثر النظار والمحققين وإن عجزوا عن بيان ما لم يتم الإسلام إلا به .
وقال ابن حامد من علمائنا : لا يشترط أن يجزم عن دليل - يعني بل يكفي الجزم ولو عن تقليد ، وقيل الناس كلهم مؤمنون حكما في النكاح والإرث وغيرهما ، ولا يدرى ما هم عند الله ، انتهى .
وقال العلامة المحقق ابن قاضي الجبل من علمائنا في أصوله : قال ابن عقيل : القياس النقلي حجة يجب العمل به ، ويجب النظر والاستدلال به بعد ورود الشرع ، قال : ولا يجوز التقليد ، والحق الذي لا محيد عنه ، ولا انفكاك لأحد منه صحة إيمان المقلد تقليدا جازما صحيحا ، وأن النظر والاستدلال ليسا بواجبين ، وأن التقليد الصحيح محصل للعلم والمعرفة ، نعم يجب النظر على من لا يحصل له التصديق الجازم أول ما تبلغه الدعوة .
قال بعض علماء الشافعية : اعلم أن وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لا يشترط فيه أن يكون عن نظر واستدلال ، بل يكفي اعتقاد جازم بذلك ، إذ المختار الذي عليه السلف وأئمة الفتوى من الخلف وعامة الفقهاء ، صحة إيمان المقلد ، قال : وأما ما نقل عن الإمام الشيخ من عدم صحة إيمان المقلد ، فكذب عليه كما قاله الأستاذ أبي الحسن الأشعري . أبو القاسم القشيري
ثم قال : ومما يرد على زاعمي بطلان إيمان المقلد أن الصحابة رضوان الله [ ص: 270 ] عليهم أجمعين فتحوا أكثر العجم ، وقبلوا إيمان عوامهم ، كأجلاف العرب ، وإن كان تحت السيف ، أو تبعا لكبير منهم أسلم ، ولم يأمروا أحدا منهم بترديد نظر ، ولا سألوه عن دليل تصديقه ، ولا أرجئوا أمره حتى ينظر
والعقل يجزم في نحو هذا بعدم وقوع الاستدلال منهم لاستحالته حينئذ ، فكان ما أطبقوا عليه دليلا أي دليل على إيمان المقلد ، وقال : إن التقليد أن يسمع من نشأ بقلة جبل الناس يقولون للخلق رب خلقهم ، وخلق كل شيء من غير شريك له ، ويستحق العبادة عليهم ، فيجزم بذلك إجلالا لهم عن الخطأ ، وتحسينا للظن بهم ، فإذا تم جزمه بأن لم يجز نقيض ما أخبروا به ، فقد حصل واجب الإيمان ، وإن فاته الاستدلال لأنه غير مقصود لذاته بل للتوصل به للجزم وقد حصل .
وقال الإمام النووي : الآتي بالشهادتين مؤمن حقا ، وإن كان مقلدا على مذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بالتصديق بما جاء به ولم يشترط المعرفة بالدليل ، وقد تظاهرت بهذا الأحاديث الصحاح يحصل بمجموعها التواتر والعلم القطعي ، انتهى .
وبما تقرر تعلم أن النظر ليس بشرط في حصول المعرفة مطلقا ، وإلا لما وجدت بدونه لوجوب انتفاء المشروط بانتفاء الشرط ، لكنها قد توجد فظهر أن النظر لا يتعين على كل أحد ، وإنما يتعين على من لا طريق له سواه ، بأن بلغته دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما بلغته دعوته ، وصدق به تصديقا جازما بلا تردد ، فمع صحة إيمانه بالاتفاق لا يأثم بترك النظر ، وإن كان ظاهر ما تقدم الإثم مع حصول الإيمان ، لأن المقصود الذي لأجله طلب النظر من المكلف وهو التصديق الجازم قد حصل بدون النظر فلا حاجة إليه ، نعم في رتبته انحطاط ، وربما كان متزلزل الإيمان فالحق أنه يأثم بترك النظر وإن حصل له الإيمان ، ومن ثم نقل بعضهم الإجماع على تأثيمه لأن جزمه حينئذ لا ثقة به ، إذ لو عرضت له شبهة عكرت عليه ، وصار مترددا بخلاف الجزم الناشئ عن الاستدلال ، فإنه لا يفوت بذلك ، والله تعالى ولي التوفيق .