الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ( الثالث : ) )

تنازع الناس في العبد : هل يصير إلى حال يمتنع عليه فيه قبول التوبة إذا أرادها ؟ فصوب شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - أن التوبة ممكنة من [ ص: 382 ] كل ذنب لمن أرادها ، ويمكن أن الله يغفر له ، قال : وهذا الذي عليه أهل السنة والجمهور ، وقد فرض بعض الناس أن من توسط أرضا مغصوبة ، ومن توسط جرحى ، فكيف ما تحرك قتل بعضهم ، فقيل : هذا لا طريق له إلى التوبة ، قال : والصحيح أن هذا وغيره إذا تاب قبل الله توبته ، فإن خروج من توسط أرضا مغصوبة بنية تخلية المكان وتسليمه إلى مستحقه ليس بمنهي عنه ، ولا محرم ، بل الفقهاء متفقون على أن من غصب دارا ، وترك فيها قماشه وماله إذا أمر بتسليمها إلى مستحقها ، فإنه يؤمر بالخروج منها وبإخراج أهله وماله منها ، وإن كان ذلك نوع تصرف فيها ، لكنه لأجل إخلائها ، وقد قال - تعالى - : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم الآيات ، فهذه في حق التائبين ، وأما آية سورة النساء وهي قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فلا يجوز أن تكون في حق التائبين ، كما يقوله من يقوله من المعتزلة ، فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك أيضا بنصوص القرآن واتفاق المسلمين ، وقد خص الله - تعالى - في هذه الآية الشرك بأنه لا يغفره ، وما عداه لم يجزم بمغفرته بل علقه بالمشيئة فقال : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وفي هذه الآية رد على الخوارج والمعتزلة ، كما أن فيها ردا على المرجئة والجبرية ; لأنه - سبحانه - علق المغفرة بالمشيئة ، فلو كان يغفر لكل أحد بطل قوله : لمن يشاء ، ولو كان لا يغفر لأحد ؛ بطل قوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فدلت الآية على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك ، لكنها لبعض الناس ، وحينئذ فمن غفر له لم يعذب ، ومن لم يغفر له عذب ، وهذا مذهب الصحابة وسلف الأمة وسائر الأئمة ، وهو القطع بأن من عصاة الأمة من يدخل النار ، ومنهم من يغفر له .

والمقصود أن الآية الأولى فيها النهي عن القنوط من رحمة الله ، وإن عظمت الذنوب وكثرت ، فليس لأحد أن يقنط من رحمة الله ، وإن كثرت ذنوبه وعظمت ، ولا أن يقنط الناس من رحمة الله ، قال بعض السلف : ويروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ، ولا يجرئهم على [ ص: 383 ] معاصي الله . والقنوط بأن يعتقد أن الله لا يغفر له ، إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ، ولا يغفر له ذنوبه ، وإما أن نفسه لا تطاوعه على التوبة ، بل هو مغلوب ، والشيطان ونفسه استحوذا عليه فييأس من توبة نفسه ، وإن علم بأنه إذا تاب غفر له ، وهذا يعتري كثيرا من الناس ، والقنوط يحصل بهذا تارة وبهذا تارة ، فالأول كالراهب الذي أفتى قاتل تسع وتسعين نفسا أن الله لا يغفر له ، فقتله وكمل به المائة ، ثم دل على عالم فسأله فأفتاه بأن الله يقبل توبته ، والحديث في الصحيحين ، والثاني كالذي يرى للتوبة شروطا كثيرة ، أو يقال له : إن للتوبة شروطا كثيرة يتعذر عليك فعلها والإتيان بها فييأس من أن يتوب ، وقد نهى الله عن ذلك ، وأخبر أنه يغفر الذنوب جميعا ، والمراد أن الله يغفر الذنوب ، ولم يخبر - سبحانه - أنه يغفر لكل مذنب ، بل أخبر - تعالى - أنه لا يغفر لمن مات كافرا فقال : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم وقال في حق المنافقين : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم وليس في الوجود ذنب لا يغفره الرب بحال ، بل ما من ذنب إلا والله يغفره في الجملة ، وهذه الآية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعا ، وفيها رد على طوائف كما سنوضحه فيما يأتي إن شاء الله - تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية