الثالث : في بعض ما ورد في ذم القدرية من الآثار ، والأخبار ، وما رده عليهم من الصحابة الأخيار ، والأئمة الأبرار . روى مسلم والنسائي وأبو داود عن والترمذي ، قال : كان أول من قال في القدر يحيى بن يعمر بالبصرة ، فانطلقت أنا معبد الجهني حاجين ، أو معتمرين ، فقلنا : لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوفق لنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري - رضي الله عنهما - داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي ، أحدنا عن يمينه ، والآخر عن شماله ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ، فقلت : عبد الله بن عمر بن الخطاب أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتفقدون العلم - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف ، فقال : عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر - ثم ساق حديث إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني ، والذي يحلف به جبريل - عليه السلام - وفيه " وتؤمن بالقدر خيره وشره - زاد في رواية - وحلوه [ ص: 303 ] ومره " الحديث ، وفي راوية أبي داود عن ، يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن قالا : فذكرنا له القدر وما يقولون فيه فذكرا نحوه ، وزاد قال : وسأله رجل من مزينة ، أو جهينة فقال : ابن عمر - فقال الرجل ، أو بعض القوم : ففيم العمل ؟ قال : " إن أهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة ، وإن أهل النار ميسرون لعمل أهل النار يا رسول الله فيم نعمل ؟ في شيء خلا ومضى ، أو شيء مستأنف ؟ " قال : في شيء خلا ومضى " وعند لقينا أبي داود أيضا من حديث - رضي الله عنه - وأصله في الصحيحين ، وفيه قال : أبي هريرة محمد أخبرني عن الإيمان قال : " أن تؤمن بالله وملائكته ، والكتاب ، والنبيين ، وتؤمن بالقدر " قال : فإذا فعلت ذلك فقد آمنت ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نعم " قال : صدقت . يا
وأخرج الترمذي من حديث - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : علي بن أبي طالب محمد رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر " . لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني
وفي صحيح مسلم عن قال : قال لي أبي الأسود الدؤلي : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قضي عليهم ، ومضى عليهم من قدر قد سبق ، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم ، ويثبت الحجة عليهم ؟ فقلت : بل شيء مضى عليهم ، وقضي عليهم . قال : فقال : فلا يكون ظالما ؟ قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا ، وقلت : كل شيء خلق الله وملك الله فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون . فقال : رحمك الله ، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك ، عمران بن حصين مزينة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا : يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون ، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم ؟ وتصديق ذلك في كتاب الله - تعالى - : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وفي أوسط إن رجلين من عن الطبراني - رضي الله عنهما - مرفوعا " ابن عباس " وأخرج القدر نظام التوحيد ، فمن وحد الله وآمن بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى أبو نعيم في الحلية من حديث - رضي الله عنهما - مرفوعا " ابن عمر القدر سر الله " وفي الجامع الكبير عن الحارث ، قال : جاء [ ص: 304 ] رجل إلى أمير المؤمنين - رضي الله عنه - فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : طريق مظلم لا تسلكه ، قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : بحر عميق لا تلجه ، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : سر الله خفي عليك فلا تفشه ، قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر - وساق الكلام في جواب السائل ، إلى أنه قال : أيها السائل تقول : لا حول ولا قوة إلا بمن ؟ قال : إلا بالله العلي العظيم ، قال : أفتعلم ما في تفسيرها ؟ قال : تعلمني مما علمك الله يا أمير المؤمنين ، قال : إن تفسيرها لا يقدر على طاعة الله ، ولا تكون له قوة في معصية الله ، في الأمرين جميعا إلا بالله ، أيها السائل ألك مع الله مشيئة ، أو فوق الله مشيئة ، أو دون الله مشيئة ؟ فإن قلت : إن لك دون الله مشيئة ، اكتفيت بها عن مشيئة الله ، وإن زعمت أن لك فوق الله مشيئة ، فقد ادعيت أن قوتك ومشيئتك غالبتان على قوة الله ومشيئته ، وإن زعمت أن لك مع الله مشيئة ، فقد ادعيت مع الله شركا في مشيئته . الأثر المروي بطوله ، والأخبار والآثار في هذا الباب كثيرة جدا . علي بن أبي طالب
وأما القدرية فقد أخرج ذم أبو داود في سننه ، والحاكم في مستدركه عن أبي عبد الرحمن بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " القدرية مجوس هذه الأمة " ورواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم ، قال الحافظ ابن حجر : ورجاله من رجال الصحيحين ، لكن ذكر الحافظ المنذري أن في سنده انقطاعا ، وقد أجاب عنه بأن أبا الحسن بن القطان الفاسي الحافظ صحح سنده ، وقال : إن أبا حازم عاصر وكان معه ابن عمر بالمدينة ، ومسلم يكتفي في الاتصال بالمعاصرة ، فهو صحيح على شرط مسلم . قلت : وقد أخرج الحديث الإمام الحافظ في كتابه " الموضوعات " من حديث ابن الجوزي - رضي الله عنه - ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي هريرة القدرية ، فلا تعودوهم إذا مرضوا ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا " رواه إن لكل أمة مجوسا ، ومجوس هذه الأمة . ابن عدي
وحكم عليه بالوضع ، وتعقبه الجلال السيوطي بأن جعفر بن الحارث الذي أعله به قد وثقه ، فقال : لم أر في أحاديثه حديثا منكرا ، أرجو أنه لا بأس [ ص: 305 ] به . وقال ابن عدي : حفظه سيئ يكتب حديثه ، والحديث ورد بهذا اللفظ من حديث البخاري حذيفة أخرجه أبو داود ، أخرجه وجابر بن عبد الله ابن ماجه ، أخرجه وعبد الله بن عمر ، الإمام أحمد في تاريخه في الأوسط ، والبخاري واللالكائي في السنة ، بعضها على شرط الصحيح ، وسهل بن عبد الله أخرجه في الأوسط ، الطبراني واللالكائي أيضا ، وأنس أخرجه ، الطبراني أخرجه وابن عباس اللالكائي ، وورد عن عمر موقوفا أخرجه اللالكائي .
وأقول : قد روى في الكبير الطبراني في صحيحه ، وابن حبان والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد ، قال الحافظ المنذري : ولا أعرف له علة عن أم المؤمنين - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " عائشة الصديقة " وفي حديث ستة لعنتهم ولعنهم كل نبي مجاب : الزائد في كتاب الله - عز وجل ، والمكذب بقدر الله ، والمتسلط على أمتي بالجبروت ليذل من أعز الله ويعز من أزل الله ، والمستحل حرمة الله ، والمستحل من عترتي ما حرم الله ، والتارك للسنة - رضي الله عنه - مرفوعا " أبي هريرة قدرية ثم تكون زنادقة ثم تكون مجوس ، وإن لكل أمة مجوسا ، وإن مجوس أمتي المكذبة بالقدر ، فإن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ، ولا تتبعوا لهم جنازة " قال الخاطبي : إنما جعلهم تكون مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين ، وهما النور والظلمة ، يزعمون أن الخير من فعل النور ، والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية ، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله ، والشر إلى غيره ، والله - تعالى - خالق الأمرين معا .
وكذا قال ابن الأثير في جامع الأصول : القدرية في إجماع أهل السنة والجماعة هم الذين يقولون : إن الخير من الله ، والشر من الإنسان ، وإن الله لا يريد أفعال العصاة ، وسموا بذلك ; لأنهم أثبتوا للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله - تعالى - ، ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه ، قال : وهؤلاء مع ضلالتهم يضيفون الاسم إلى مخالفهم من أهل الهدى ، فيقولون : أنتم القدرية حين تجعلون الأشياء جارية بقدر من الله ، وإنكم أولى بهذا [ ص: 306 ] الاسم منا لأنكم تثبتون القدر ، ونحن ننفيه ، ومثبته أحق بالنسبة إليه من نافيه ، فأنتم الداخلون تحت وعيد الحديث دوننا . فأجابهم المثبتون بأنكم أولى بذلك ; لأنكم تثبتون القدر لأنفسكم ونحن ننفيه عن أنفسنا ، ومثبت الشيء لنفسه أولى بالنسبة إليه ممن نفاه عن نفسه ، وأيضا هذا الحديث يبطل ما قالوه ، فإنه قال - صلى الله عليه وسلم - : " القدرية مجوس هذه الأمة " ومعنى ذلك أنهم لمشابهتهم المجوس في مذهبهم وقولهم بالأصلين ، وهما النور والظلمة .
وتقدم كلام شيخ الإسلام ، فلا يهمل ، وبالله التوفيق .