فهم من النظم أن الباري - جل وعلا - يريد من العبيد ما لا يرضاه ولا يحبه ، فإن الإرادة ، والمشيئة مترادفتان ، وهي لا تستلزم الأمر ، والرضا ، والمحبة كما تقدم في بحثها . وقالت المعتزلة : يمتنع عليه - تعالى - ، وقالوا : يريد ما لا يقع ويقع ما لا يريد ، فزعموا أنه - تعالى - أراد من الكافر الإيمان وإن لم يقع ، لا الكفر وإن وقع ، وكذا أراد من الفاسق الطاعة لا الفسق ، حتى زعموا أن أكثر ما يقع من عباده على خلاف مراده ، تعالى الله عن ذلك ، وزعموا أن إرادة القبيح قبيحة ، والله - تعالى - منزه عن القبائح ، ورد بأنه - تعالى - لا يقبح منه شيء وإن خفي علينا وجه حسنه ، وتقدم هذا في قوله : إرادة الشرور والمعاصي والقبائح
وكل ما يفعله العباد من طاعة أو ضدها مراد
الأبيات المارة آنفا ، والحاصل أن الأمر والرضا والمحبة لا تكون إلا في الخير ، وقد تكون في غيره ، فهي تتعلق بكل ممكن كما تقدم ، قال الله - تعالى - : ولا يرضى لعباده الكفر - إن الله لا يأمر بالفحشاء ، فإن قلت : قد قال الله - تعالى - : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال - تعالى - : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فالجواب أن الإرادة التي نعنيها هي الإرادة الكونية ، وأما الإرادة الدينية فهي ترادف الرضا ، والمحبة . وكذلك الأمر الذي نعنيه أو نتكلم عليه - الأمر الديني . وأما [ ص: 339 ] الأمر الكوني فهو يرادف الإرادة كما في عدة آيات قرآنية ، على أن أظهر تفاسير قوله - تعالى - : أمرنا مترفيها أي أمرناهم بطاعتنا ، والانقياد لأمرنا على ألسنة رسلنا ، ففسقوا بمخالفة رسلنا . ومما يحكى أن القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي دخل على ، وكان معتزليا أيضا ، وكان عنده الأستاذ الصاحب بن عباد من أئمة أبو إسحاق الإسفراييني أهل السنة ومحققي الأشاعرة ، فقال عبد الجبار على الفور : سبحان من تنزه عن الفحشاء . فقال أبو إسحاق فورا : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء . فقال له عبد الجبار ، وفهم أنه قد عرف مراده : أيريد ربنا يعصى ؟ فقال أبو إسحاق : أيعصى ربنا قهرا ؟ فقال له عبد الجبار : أرأيت إن منعني الهدى ، وقضى علي بالردى ، أحسن إلي أم أساء ؟ فقال له الأستاذ أبو إسحاق : إن كان منعك ما هو لك فقد أساء ، وإن كان منعك ما هو له فيختص برحمته من يشاء . فانصرف الحاضرون وهم يقولون : والله ليس عن هذا جواب . وقد قدمنا ما لعله يشفي ويكفي ، والله الموفق .
فإن قيل : كيف يريد الله - سبحانه - أمرا لا يرضاه ولا يحبه ، وكيف يشاؤه ويكونه ، وكيف تجتمع إرادته له وبغضه وكراهته ؟ فالجواب : اعلم أن هذا السؤال أصل الافتراق والضلال الواقع بين طوائف المسلمين وفرق الموحدين ، واعلم أن المراد نوعان : مراد لنفسه ، ومراد لغيره ، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته ، وما فيه من الخير فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد ، والمراد لغيره قد لا يكون في نفسه مقصودا للمريد ، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته ، وإن كان إلى مقصوده ومراده فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته ، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله - إلى مراده ، فيجتمع فيه الأمران ، بغضه وإرادته من غير تناف ، لاختلاف متعلقهما ، كالدواء المتناهي في الكراهة ، إذا علم متناوله أن فيه شفاءه ، وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده ، وقطع المسافة الشاقة جدا إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه ، بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب ، وإن خفيت عنه عاقبته ، وطويت عنه مغبته ، فكيف بمن لا تخفى عليه العواقب ؟ فهو - سبحانه - يكره الشيء ويبغضه في ذاته ، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره وكونه سببا لأمر هو أحب إليه من فوته ، [ ص: 340 ] من ذلك خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان ، والأعمال ، والاعتقادات ، والإرادات ، وهو سبب شقاء العبيد وعملهم بما يغضب الرب المريد ، وهو الساعي في وقوع مساخط الله ومناهيه بكل طريقة وحيلة ، فهو مسخوط للباري مبغوض ، قد لعنه وأبعده وغضب عليه وطرده ، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للباري - جل وعلا - ترتب وجودها على خلقه وإيجاده ، ووجودها أحب إلى الله من عدمها ; لحكمة جرت منه في عباده على وفق مراده . منها إظهار القدرة على خلق المتضادات المتقابلات ، كخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات وشرها ، وهي سبب كل شر في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها ، وهي مادة كل خير ، فتبارك الله خالق الأضداد ، وكما ظهرت قدرته التامة في خلق الليل والنهار ، والضياء والظلام ، والداء والدواء ، والحياة والموت ، والحر والبرد ، والحسن والقبح ، والأرض والسماء ، والماء والنار ، والخير والشر ، وكل ذلك ونظائره من دلائل كمال قدرته وعزته ، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض ، وسلط بعضها على بعض وجعلها محال تصرفه وتدبير مملكته . ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية كالقهار ، والمنتقم ، والعدل ، والضار ونحوها ، وظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره ، وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده ، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور هذه الأسماء ; لتعطلت هذه الحكم والفوائد ، وفي الحديث " " . لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم
ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة ، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها اللائقة بها ، فلا يضع الشيء في غير موضعه ، ولا ينزله غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته من المنع والعطاء والثواب ، والعقاب ، والخفض والرفع ، والعز والذل ، ونحوها .
ومنها : حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت ، ولكان الحاصل بعضها لا كلها ، فعبودية الجهاد سببها الكفر ، والعناد الناشئ عن تلبيس إبليس ، وعبودية التوبة المحبوبة إلى الله - تعالى - ، وعبودية مخالفة أعدائه ومراغمتهم ، [ ص: 341 ] ومنها : عبودية الاستعاذة من الشيطان الرجيم ، ونفس اتخاذ إبليس عدوا من أكبر أنواع العبودية وأجلها ، إلى غير ذلك من الحكم والفوائد التي أبداها الإمام المحقق ابن القيم في شرح منازل السائرين ، فلخصت منها ما لعله يدل الفطن على ما لا يدخل تحت الإحصاء ، فإن وجودها مترتب على وجود إبليس ترتيب وجود المسبب على سببه ، والملزوم على لازمه .
ثم قال : فإن قلت : فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم ، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه ، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه ؟ فأجاب بأن هذا السؤال يرد على وجهين : أحدهما : من جهة الرب سبحانه ، وهل يكون محبا لها من جهة إفضائها إلى محبوبه ، وإن كان يبغضها لذواتها ؟ والثاني : من جهة العبد ، وهو أنه هل يتسرع له الرضا بها من تلك الجهة أيضا ؟ فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم ، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه ، وهو من هذه الجهة شر ، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه ، مثاله أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة ، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها ، فإنها خلقت في الأصل متحركة لا تسكن ، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به ، وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه ، وحركتها من حيث هي حركة - خير ، وإنما تكون شرا بالإضافة ، لا من حيث هي حركة ، والشر كله ظلم ، وهو وضع الشيء في غير موضعه ، فلو وضع في موضعه لم يكن شرا ، فعلم أن جهة الشر فيه نسبة إضافية ; ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيرا في نفسها ، وإن كانت شرا بالنسبة إلى المحل الذي حلت به ; لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة ، مستعدة له ، فصار ذلك الألم شرا بالنسبة إليها ، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل ، حيث وضعه موضعه ، فإنه - سبحانه - لا يخلق شرا محضا من جميع الوجوه والاعتبارات ، فإن حكمته تأبى ذلك ، بل قد يكون ذلك المخلوق شرا ومفسدة ببعض الاعتبارات ، وفي خلقه مصالح وحكم باعتبار آخر أرجح من اعتبارات مفاسده ، بل الواقع منحصر في ذلك ، فلا يمكن في جناب الحق - جل جلاله - أن يريد شيئا يكون فسادا من كل وجه ، وبكل اعتبار ، لا مصلحة في خلقه بوجه ما ، هذا من أبين المحال ، فإنه - سبحانه - بيده [ ص: 342 ] الخير ، والشر ليس إليه ، بل كل ما إليه فخير ، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه ، لو كان إليه لم يكن شرا ، فتأمله . فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شرا .
فإن قلت : لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة ؟ قلت : هو من هذه الجهة ليس بشر ، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه ، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير ، فإن أردت مزيدا من إيضاح ذلك ، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة : الإيجاد ، والإعداد ، والإمداد ، فهذه هي الخيرات وأسبابها ، فإيجاد هذا السبب خير ، وهو إلى الله ، وإعداده خير ، وهو إليه أيضا ، وإمداده خير ، وهو إليه أيضا ، فإذا لم يحدث فيه إعدادا ولا إمدادا ؛ حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل ، وإنما إليه ضده ، فإن قلت : فهلا أمده إذا أوجده ؟ قلت : ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده ، فإنه سبحانه يوجده ويمده ، وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده ؛ أوجده بحكمته ولم يمده بحكمته ، فإيجاده خير ، والشر وقع من عدم إمداده .
فإن قلت : فهلا أمد الموجودات كلها ؟ فالجواب : هذا سؤال فاسد ، يظن مورده أن الموجودات أبلغ في الحكمة ، وهذا عين الجهل ، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها ، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت ، فكل نوع منها ليس في خلقه من تفاوت ، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق ، وإلا فليس في الخلق من تفاوت . قال - رحمه الله تعالى - فإن اعتاص ذلك عليك ولم تفهمه حق الفهم ، فراجع قول القائل : إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
وسر المسألة أن يستلزم الرضا بصفاته وأفعاله وأسمائه وأحكامه ، ولا يستلزم الرضا بمفعولاته كلها ، بل حقيقة العبودية أن يوافقه عبده في رضاه وسخطه ، فيرضى منها بما رضي ويسخط منها ما سخطه . الرضا بالله
فإن قيل : هو سبحانه يرضى عقوبة من يستحق العقوبة ، فكيف يمكن العبد أن يرضى بعقوبته له ، فالجواب لو وافقه في رضاه بعقوبته لانقلبت لذة وسرورا ، ولكن لا يقع منه ذلك ، فإن لم يوافقه في محبة طاعته التي هي سرور النفس وقرة العين وحياة القلب ، فكيف يوافقه في محبة العقوبة التي هي أكره شيء [ ص: 343 ] إليه وأشق شيء عليه ، بل من كان كارها لما يحبه من طاعته وتوحيده ، فلا يكون راضيا بما يختاره من عقوبته ، ولو فعل ذلك لارتفعت عنه العقوبة . ويأتي لهذا تتمة في الرضا بالقضاء إن شاء الله - تعالى - .