( ( وجاز للمولى يعذب الورى من غيرما ذنب ولا جرم جرى ) ) ( ( فكل ما منه - تعالى - يجمل
لأنه عن فعله لا يسأل ) ) [ ص: 321 ] ( ( فإن يثب فإنه من فضله
وإن يعذب فبمحض عدله ) ) ( ( فلم يجب عليه فعل الأصلح
ولا الصلاح ويح من لم يفلح ) ) ( ( فكل من شاء هداه يهتدي
وإن يرد ضلال عبد يعتد ) )
ومذهب الأشاعرة أن أفعال الباري - تعالى - ليس معللة بالأغراض والمصالح والغرض ، ما لأجله يصدر الفعل عن الفاعل ، ويقولون : إن الله - تعالى - يفعل هذه الحوادث عند الأسباب المقارنة لها ، وإن ذلك عادة محضة ، ويجعلون اللام في أفعاله لام العاقبة ، لا لام التعليل كما هو مقرر محرر . ومذهب الماتريدية امتناع خلو فعله عن المصلحة .
قال السعد : والحق أن تعليل بعض الأفعال لا سيما الأحكام الشرعية بالحكم والمصالح - ظاهر . ومذهب سلف الأئمة على ما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح الأصفهانية ، وأنه القول الوسط الجامع للحق الموافق لصحيح المنقول ، وصريح المعقول . وعليه أشهر الطوائف انتسابا إلى السنة هم مثبتة القدر الذين يقرون بما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من أن ، ويثبتون لله - تعالى - حكمة يفعل لأجلها قائمة به - تعالى - لا منفصلة عنه ، ويثبتون له رحمة ومحبة ورضا وسخطا ، ويثبتون للحوادث أسبابا تقتضي التخصيص ، ويثبتون ما خلقه الله من الأسباب ، والموانع ، قال : وهذا هو الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول ، وهو الذي يجمع ما في الأقوال المختلفة من الصواب ، ويجتنب ما فيها من الخطأ ، قال : فهذه طريقة سلف الأمة وأئمة الدين ، وهي التي يدل عليها الكتاب والسنة وإجماع السلف ، فإن الله - تعالى - بين في كتابه الحق وأدلته بما ضربه فيه من الأمثال وسنه من البراهين العقلية . انتهى . الله - تعالى - خالق كل شيء وربه ومليكه ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه خالق كل شيء بقدرته ومشيئته
قال بعض متكلمي الأشاعرة : إن الأشاعرة يقولون بالحكمة والمصلحة في نفس الأمر ; لأنهم يمنعون العبث في أفعاله - تعالى - كما يمنعون الغرض ; ولذلك كان التعبدي من الأحكام ما لا يطلع على حكمته ، لا ما لا حكمة له ، على أن بعضهم نقل عن الأشاعرة أنهم إنما يمنعون وجوب التعليل لا أنهم يحيلونه ، كما صرح به الإمام ، واستغربه بعض ابن عقيل الحنبلي الأشاعرة ، وبالله التوفيق .
[ ص: 329 ] فإذا علمت ذلك وفهمته ( ( فلم يجب عليه ) ) - سبحانه وتعالى - ( ( فعل الأصلح ) ) أي الأنفع ( ( ولا ) ) يجب عليه أيضا فعل ( ( الصلاح ) ) لعباده ، خلافا للمعتزلة ، فمعتزلة البصرة قالوا بوجوب الأصلح في الدين ، وقالوا : تركه بخل وسفه يجب تنزيه الباري عنه ، ومنهم الجبائي ، وذهب معتزلة بغداد إلى وجوب الأصلح في الدين والدنيا معا ، لكن بمعنى الأوفق في الحكمة والتدبير .
وهذه المسألة مترجمة في كتب القوم بمسألة وجوب الصلاح والأصلح ، وحاصلها أن المعتزلة قالوا بوجوب ما هو الأصلح للعباد عليه - تعالى . وتفصيل ذلك أنهم اتفقوا بعد القول بوجوب الأصلح للعباد عليه - تعالى - وعلى وجوب الإقدار والتمكين وأقصى ما يمكن في معلوم الله - تعالى - مما يؤمن عنده الكافر ويطيع العاصي ، وأنه - تعالى - فعل بكل أحد غاية مقدوره من الأصلح ، قالوا : وليس في مقدوره - تعالى - عما يقول الظالمون علوا كبيرا - لطف لو فعل بالكفار لآمنوا جميعا ، وإلا لكان تركه بخلا وسفها .
ثم اختلفوا فيما يجب مراعاة الأصلح بالنسبة إليه ، كما نبهنا عليه من جهة الدين والدنيا أو الدين فقط على ما مر ، ثم اختلفوا في تفسير الأصلح هل هو الأوفق في الحكمة والتدبير ، أو هو الأنفع كما تقدم آنفا ، ثم اختلفت معتزلة البصرة ، فمنهم من اعتبر الأنفع في علم الله - تعالى . فأوجب ما علم الله نفعيته ، ومن هؤلاء الجبائي ، ومنهم من لم يعتبر ذلك ، فزعم أن من علم الله منه الكفر على تقدير تكليفه إياه يجب تعريضه للثواب بأن يبقيه إلى أن يبلغ عاقلا قادرا على اكتساب الخيرات . والبغدادية وإن لم يلزمهم فيها شيء ، لكن الإلزام عليهم في تخليد الفساق في النار أشد قبحا وشناعة ، وتمسكوا على ذلك بقولهم : نحن نقطع بأن الحكيم إذا أمر بطاعته أحدا ، وقدر على أن يعطي المأمور ما يصل به إلى الطاعة من غير تضرر بذلك ، ثم لم يفعل ؛ كان مذموما عند العقلاء ، معدودا في زمرة البخلاء ، وكذلك من دعا عدوه إلى الموالاة والرجوع إلى الطاعة والمصافاة ؛ لا يجوز أن يعامله من الغلظ واللين إلا بما هو أنجع في حصول المراد وأدعى إلى ترك العناد .
قالوا : وأيضا من اتخذ ضيافة لرجل واستدعاه إلى الحضور ، وعلم أنه لو تلقاه ببشر وطلاقة وجه لدخل وأكل ، وإلا لم يدخل ؛ فالواجب عليه عند العقلاء البشر ، والطلاقة ، والملاطفة ، لا أضدادها . وأجلبوا وأجنبوا من هذا التمويه الذي لا يصدر [ ص: 330 ] إلا من ضال سفيه ، ولهذا قال : ( ( ويح ) ) هذه كلمة ترحم وتوجع ، تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها ، وهي منصوبة على المصدر ، وقد ترفع وتضاف كما هنا ، وضده " ويل " فإنها تقال للحزن ، والهلاك ، والمشقة من العذاب ، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ، وقيل : " وي " كلمة مفردة ، ولامه مفردة ، وهي كلمة تفجع وتعجب ، فإن قلت : كان المناسب هنا الإتيان بكلمة " ويل " لاقتضاء المقام ؛ قلت : بل الأنسب كلمة " ويح " ; لأنه يتوجع ويترحم لإخوانه من الملة الإسلامية ، كيف استزلهم الشيطان وتلاعب بهم تلاعب الصبيان بالكرة والصولجان ، مع ظهور أدلة القرآن والسنة لمذهب أهل السنة ، فعلى عقولهم الدمار ، وعلى فهومهم البوار ( ( من ) ) أي شخص بالغ عاقل ( ( لم يفلح ) ) أي لم يفز بمتابعة الحق ، وموافقة الشرعة ، ورفض الباطل ، ومجانبة البدعة ، والفلاح من الكلمات الجوامع ، وهو عبارة عن أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعز بلا ذل ، وعلم بلا جهل ، قالوا : فلا كلمة في اللغة أجمع للخيرات منها .
ولمذهب المعتزلة لوازم فاسدة تدل على فساده ، منها أن القربات من النوافل صلاح ، فلو كان الصلاح واجبا وجبت وجوب الفرائض . ومنها أن خلود أهل النار يجب أن يكون صلاحا لهم دون أن يردوا فيعتبوا ربهم ويتوبوا إليه ، ولا ينفعكم اعتذاركم عن هذا بأنهم لو ردوا لعادوا ، فإن هذا حق ولكن لو أماتهم وأعدمهم فقطع عتابهم كان أصلح لهم ، ولو غفر لهم وأخرجهم من النار كان أصلح من إماتتهم وإعدامهم ، ولم يتضرر - سبحانه - بذلك .
ومنها أن عدم خلق إبليس وجنوده أصلح للخلق وأنفع ، وقد خلقه الباري - جل شأنه . وأيضا إنظاره وتمكينه وتمكين جنوده وجريانهم من الآدمي مجرى الدم في أبشارهم - ينافي مذهبهم ، فكان يلزمهم أن لا يكون شيء من ذلك ، والواقع خلافه . ومنها ما ألزمه الإمام أبو الحسن الأشعري للجبائي ، وقد سأله عن ثلاثة إخوة ، أمات الله أحدهم صغيرا ، وأحيا الآخرين ، فاختار أحدهما الإيمان ، والآخر الكفر ، فرفع الله درجة المؤمن البالغ عن أخيه الصغير في الجنة بعمله ، فقال أخوه الصغير : يا رب لم لا بلغتني منزلة أخي ؟ فقال : إنه عاش وعمل عملا استحق به هذه المنزلة . فقال : يا رب فهلا أحييتني حتى أعمل مثل عمله فأبلغ منزلته ؟ فقال : كان الأصلح لك أن توفيتك صغيرا لأني علمت أنك إن [ ص: 331 ] بلغت اخترت الكفر ، فكان الأصلح لك في حقك أن أمتك صغيرا . قال الأشعري : فإن قال الثاني : يا رب لم لم تمتني صغيرا لئلا أعصي فلا أدخل النار ، ماذا يقول الرب ؟ فبهت الجبائي ، وكان الأشعري على مذهب ، فترك مذهبه . قال أبي علي الجبائي ابن خلكان : كان أولا معتزليا ، ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن ، فقام في المسجد الجامع أبو الحسن الأشعري بالبصرة يوم الجمعة فرقى كرسيا ، ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا فلان ابن فلان ، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله - تعالى - لا يرى بالأبصار ، وأن أفعال البشر أنا أفعلها ، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم .
قال ابن خلكان : مولد الأشعري سنة سبعين ، وقيل : ستين ومائتين بالبصرة ، وتوفي سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة ، ودفن بين الكرخ وباب البصرة . انتهى . قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة : فإذا علم الله أنه لو اخترم العبد قبل البلوغ وكمال العقل لكان ناجيا ، ولو أمهله وسهل عليه النظر لعند وكفر وجحد ، فكيف يقال إن الأصلح في حقه إبقاؤه حتى يبلغ ، قال : والمقصود عندكم - يعني المعتزلة القائلين بالأصلح - بالتكليف الاستصلاح ، والتفويض بأسنى الدرجات التي لا تنال إلا بالأعمال .
وأيضا قال القائلون بوجوب الأصلح : الرب - تعالى - قادر على التفضل بمثل الثواب ابتداء بلا واسطة عمل ، فأي غرض له في تعريض العباد للبلوى ، والمشاق ؟ وكونه - تعالى - قادرا على ذلك حق ، ثم كذبوا وافتروا فقالوا : الغرض في التكليف أن استيفاء المستحق حقه أهنأ وألذ من قبول التفضل واحتمال المنة .
وهذا كلام أجهل الخلق بالرب - تعالى - وبحقه وعظمته ، ومساواة بينه وبين آحاد الناس ، وهو من أقبح التشبيه وأخبثه ، تعالى عن ضلالهم وإفكهم علوا كبيرا . وأيضا يلزم القائلين بوجوب الأصلح أن يوجبوا على الله - عز وجل - أن يميت كل من علم من الأطفال أنه لو بلغ لكفر وعاند ، فإن اخترامه هو الأصلح له بلا ريب ، أو أن يجحدوا علمه سبحانه بما سيكون قبل كونه التزمه سلفهم الخبيث الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم ، ولا خلاص لهم عن أحد هذين الإلزامين إلا بالتزام مذهب أهل السنة والجماعة من أن أفعال الله لا تدخل تحت شرائع عقولهم القاصرة ، ولا تقاس بأفعالهم الخاسرة ، بل [ ص: 332 ] أفعاله - تعالى - لا تشبه أفعال خلقه ، ولا صفاته صفاتهم ، ولا ذاته ذواتهم ، إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . وأيضا يلزمهم أن من علم الله - تعالى - إذا بلغ من الأطفال يختار الإيمان ، والعمل الصالح - أن لا يميته طفلا ، فإن الأصلح في حقه أن يحييه حتى يبلغ ويؤمن ويعمل صالحا ، فينال بذلكم الدرجات العالية ، وهذا ما لا جواب لهم عنه ، وأيضا يلزمهم أن يقولوا ليس في مقدور الله - تعالى - لطف لو فعله - تعالى - بالكفار لآمنوا ، وقد التزمه المعتزلة القدرية ، وبنوه على أصلهم الفاسد ، أنه يجب على الله - تعالى - أن يفعل في حق كل عبد ما هو الأصلح له ، فلو كان في مقدوره ما يؤمن العبد عنده لوجب عليه أن يفعله به ، والقرآن من أوله إلى آخره يرد هذا القول ويكذبه ويخبر - سبحانه وتعالى - أنه لو شاء لهدى الناس جميعا ، ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا .
وأيضا يلزمهم - وقد التزموه - أن لطفه - تعالى - ونعمته وتوفيقه بالمؤمن كلطفه بالكافر ، وأن نعمته عليهما سواء ، لم يخص المؤمن بفضل عن الكافر ، وكفى بالوحي وصريح المعقول وفطرة الله والاعتبار الصحيح وإجماع الأمة ردا لهذا القول وتكذيبا له . وأيضا ما من أصلح إلا وفوقه ما هو أصلح منه ، والاقتصار على رتبة واحدة كالاقتصار على الصلاح ، فلا معنى لقولكم يجب مراعاة الأصلح إذ لا نهاية له ، فلا يمكن في الفعل رعايته ، إلى غير ذلك مما يلزم القائلين بالصلاح والأصلح ، فإنه - تعالى - خلق الكافر الفقير المعذب في الدنيا بالأسقام ، والآلام ، والمحن ، والآفات مع الكفر ، والهفوات ، وكيف ينهض لهم دليل وخلود الكفار في النار ليس بأصلح لهم من غير تفصيل .