الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ولما كان من متعلقات الذنوب التوبة ، وكانت واجبة على كل من تلبس بذنب ؛ ذكر ذلك بقوله : ( ( وواجب ) ) وجوب لزوم لا بد منه ( ( عليه ) ) أي المذنب ( ( أن يتوبا ) ) بألف الإطلاق للوزن أي أن يرجع ، فالتوبة أصل كل مقام ، ومفتاح كل حال ، فمن لا توبة له لا مقام له ولا حال ، وهي لغة الرجوع من شيء إلى آخر ، وقال الإمام النووي : أصل التوبة لغة الرجوع ، يقال تاب وثاب بالمثلثة وآب وأناب رجع ، والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن الذنب . انتهى . فهي الرجوع عن الذنب بأن يقلع عنه ويندم عليه ويعزم على ألا يعود إليه ، ويرضي الآدمي عن ظلامته إن تعلقت به . وقال بعضهم : التوبة [ ص: 372 ] الواجبة الرجوع عما كان مذموما في الشرع من ترك واجب أو فعل محرم إلى ما هو محمود في الشرع . قال النووي : أركانها ثلاثة : الإقلاع ، والندم على فعل تلك المعصية ، والعزم على أن لا يعود إليها أبدا ، وأن لا يغرغر . انتهى .

فإن كانت المعصية لآدمي فلها ركن رابع وهو التحلل من صاحب ذلك الحق . وأصلها الندم وهو ركنها الأعظم ، وقد فسرت الصحابة - رضي الله عنهم - كأميري المؤمنين عمر وعلي ، وابن مسعود التوبة بالندم ، ومنهم من فسرها بالعزم على أن يعود ، وقد روي ذلك مرفوعا من وجه فيه ضعف ، لكن لا يعلم مخالف من الصحابة في هذا ، وكذلك التابعون ومن بعدهم كعمر بن عبد العزيز ، والحسن وغيرهما .

وفي قوله ( ( من كل ما ) ) أي شيء أو الذي ( ( جر ) ) أي قاد وجذب ( ( عليه ) ) أي المذنب ( ( حوبا ) ) أي إثما ، وفي القاموس : الحوب الإثم ، يقال حاب بكذا أثم حوبا ، ويضم ، والحوب الحزن والوحشة ، ويضم فيهما . وفي القاموس أيضا : الحوب بالضم الهلاك ، والبلاء ، والتحوب التوجع وترك الحوب ؛ كالتأثم .

ومراد الناظم من ذلك : من كل ما جر عليه الهلاك والبلاء ؛ إشعارا بوجوب التوبة من كل ذنب كبير ، أو صغير ، وهذا مما اتفق عليه العلماء ، فإنهم اتفقوا على أن التوبة من كل معصية - واجبة على الفور ، لا يجوز تأخيرها ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، وأنها من مهمات الإسلام وقواعد الدين المتأكدة . ووجوبها عند أهل السنة بالشرع وعند المعتزلة بالعقل . وظاهر النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، والآثار السلفية على أن من تاب لله توبة نصوحا واجتمعت شروط التوبة في حقه ، أنه يقطع بقبول توبته كرما منه وفضلا . وعرفنا قبولها بالشرع والإجماع خلافا للمعتزلة ، أما في حق قبول توبة الكافر بالإسلام ، فهذه بالإجماع كما نقله غير واحد ، قال النووي في شرح مسلم وغيره : توبة الكافر من كفره قبولها مقطوع به ، وفي كلام ابن عقيل من أئمة علمائنا [ ص: 373 ] ما يخالف ذلك ، فإنه قال : إنه لا يجب ويجوز ردها . انتهى . وأما قبول توبة المذنب النصوح بشرطها فقول الجمهور وكلام الإمام ابن عبد البر يدل على أنه إجماع ، ومن الناس من قال : لا يقطع بقبول التوبة ، بل يرجى ، وصاحبها تحت المشيئة ، منهم إمام الحرمين . قال القرطبي : من استقرأ الشريعة علم أن الله يقبل توبة الصادقين قطعا . نقله في الفتح وأقره .

وإلى قبول التوبة فضلا وكرما أشار بقوله : ( ( ويقبل المولى ) ) الذي هو رب العالمين وخالق الخلق ، وباسط الرزق ذو الكرم الواسع ، والفضل العظيم ( ( بمحض ) ) أي خالص ( ( الفضل ) ) والكرم من غير وجوب عليه - تعالى - ولا إلزام ( ( من ) ) كل عبد مذنب تاب إلى الله توبة نصوحا بشروطها المذكورة من الندم ، والإقلاع ، والعزم أن لا يعود ، وأن يرد ما أمكن من المظالم من حقوق الآدميين ، أو يستحلهم مما أمكن ، فإذا اجتمعت الشروط قبلت التوبة فضلا من الله - تعالى ، ولا بد أن تكون من شخص مسلم ( ( غير عبد كافر ) ) بالله ورسوله ( ( منفصل ) ) عن الدين ، إما بردة ، أو كان كافرا أصليا ، فلا تقبل توبته من الذنوب ( ( ما لم يتب ) ) أي يرجع ( ( من كفره ) ) فيسلم ويقر لله بالوحدانية ولنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة ، ويقر ويذعن بجميع ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ويؤمن بالكتاب وبما جاء به الكتاب فيتصف من بعد رجوعه عن الكفر ( ( بضده ) ) من الإسلام ، فإن كان مرتدا بإنكار ما علم من الدين بالضرورة إيجابا وتحريما ؛ فيرجع عن إنكاره ذلك ، ويقر ويذعن حسب ما جاء به النبي الكريم وكلام الله القديم . وإن كان مشركا ، أو معتقدا أن لله شريكا يستقل بالنفع ، والضرر ، وعلم الغيب مما استأثر الله بعلمه ( ( فـ ) ) ـلا يقبل منه ما لم ( ( يرتجع عن شركه ) ) الذي كان متصفا به ( ( وصده ) ) أي إعراضه عن الدين واتباع سيد العالمين ؛ بأن يذعن وينقاد لشريعة خير العباد ؛ مسلما خاضعا مقبلا بقلبه وقالبه ، خالعا ما كان عليه من ترهاته ومطالبه ، فهذا يقبل إسلامه إجماعا . وأما المذنب فزعم بعض الناس أنه لا يقطع بقبول توبته مع استيفاء الشروط ، متعللا بقوله - تعالى - : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فيجعل كل الذنوب تحت المشيئة ، وربما تعلقوا بمثل قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم [ ص: 374 ] وبقوله : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ، وبقوله فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ، وبقوله : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ، والظاهر أن هذا في حق التائب ; لأن الاعتراف يقتضي الندم . وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب ، تاب الله عليه " . والصحيح قول الجمهور : هذه الآيات لا تدل على عدم القطع ، فإن الكريم إذا أطمع لم يقطع من رجائه المطمع ، ومن هنا قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إن " عسى " من الله واجبة .

نقله عنه علي بن أبي طلحة . وقد ورد جزاء الإيمان والعمل الصالح بلفظ " عسى " أيضا ، فلم يدل ذلك على أنه غير مقطوع به كما في قوله : إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر الآية ، وأما قوله - تعالى - : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فإن التائب ممن يشاء أن يغفر له كما أخبر بذلك في مواضع كثيرة من كتابه .

التالي السابق


الخدمات العلمية