( ( تنبيهات ) )
الأول : اختلف الناس : ؟ فروي عن هل تكفر الأعمال الصالحة الكبائر والصغائر ، أم لا تكفر سوى الصغائر عطاء وغيره من السلف في الوضوء أنه يكفر الصغائر ، والمشي إلى المساجد يكفر أكبر من ذلك ، والصلاة تكفر أكبر من ذلك . خرجه . وأما محمد بن نصر المروزي ; لأن الله أمر العباد بها ، وجعل من لم يتب ظالما فقال : الكبائر فلا بد لها من التوبة ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون واتفقت الأمة على أن التوبة فرض ، والفرائض لا تؤدى إلا بنية وقصد ، ولو وقعت الكبائر مكفرة بالوضوء ، والصلاة ، أو أداء بقية أركان الإسلام ؛ لم يحتج إلى التوبة - وهذا باطل بالإجماع ، وأيضا فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار إذا أتى بالفرائض . قال الحافظ [ ص: 375 ] ابن رجب : وهذا يشبه قول المرجئة ، وهو باطل .
وكما ذكره في التمهيد ، وحكى إجماع المسلمين على ذلك ، واستدل عليه بأحاديث ، منها قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ابن عبد البر " متفق عليه من حديث الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر - رضي الله عنه - . أبي هريرة
وقد حكى ابن عطية في تفسيره قولين في معنى هذا الحديث : أحدهما : عن جمهور أهل السنة أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر ، فإن لم يجتنب ؛ لم تكفر هذه الفرائض شيئا بالكلية ، والثاني : أنها تكفر الصغائر مطلقا ولا تكفر الكبائر ، وإن وجدت ، لكن بشرط عدم الإصرار عليها ، مراده أنه إذا أصر عليها صارت كبيرة ، فلم تكفرها الأعمال .
وفي صحيح مسلم من حديث - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " عثمان بن عفان " وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة . ما من امرئ مسلم يحضر صلاة مكتوبة ، فيحسن وضوءها وخشوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ، ما لم تؤت كبيرة ، وذلك الدهر كله
قال الحافظ ابن رجب : وقد ذهب قوم من أهل الحديث إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر ، منهم الإمام ، وإياه عنى الإمام أبو محمد علي بن حزم الظاهري في كتاب التمهيد بالرد عليه ، وقال : قد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب لولا قول ذلك القائل ، وخشيت أن يغتر به جاهل فينهمك في الموبقات اتكالا على أنها تكفرها الفرائض من الصلوات ونحوها ، دون الندم ، والاستغفار والتوبة ، والله نسأله العصمة والتوفيق . ابن عبد البر
قال الحافظ ابن رجب : وقد وقع مثل هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه ، ووقع مثله في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر ، قال : يرجى لمن قامها أن يغفر له جميع ذنوبه كبيرها وصغيرها . قال : فإن كان مرادهم أن من أتى بفرائض الإسلام وهو مصر على الكبائر - أنها تغفر له قطعا ؛ فهذا باطل قطعا ، يعلم بالضرورة من الدين بطلانه ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " " يعني بعمله في الجاهلية والإسلام . قال : وهذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان . قال : وإن أراد هذا القائل أن من ترك الإصرار على الكبائر وحافظ على الفرائض من غير توبة ولا ندم على ما سلف منه - كفرت ذنوبه كلها بذلك ، واستدل بظاهر قوله [ ص: 376 ] - تعالى - : من أساء في الإسلام أخذ بالأول ، والآخر إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم تشمل الكبائر ، والصغائر ، فكما أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر من غير قصد ولا نية ، فكذلك الكبائر ، وقد يستدل لذلك بأن الله وعد المؤمنين ، والمتقين بالمغفرة وتكفير السيئات ، وهذا مذكور في غير موضع من القرآن ، وقد صار مثل هذا من المتقين ، فإنه فعل الفرائض واجتنب الكبائر ، واجتناب الكبائر لا يحتاج إلى نية وقصد ، فهذا القول يمكن أن يقال في الجملة ، والصحيح قول الجمهور إن الكبائر لا تكفر بدون التوبة ; لأنها فرض لازم على العباد ، وأما النصوص المتضمنة مغفرة الذنوب وتكفير السيئات للمتقين ، فإنه سبحانه لم يبين في الآيات خصال التقوى ولا العمل الصالح ، فإن من جملة ذلك التوبة النصوح ، وأما من لم يتب فهو ظالم غير متق . ومما يبين أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة منها أو العقوبة عليها - حديث المار ، وهو في الصحيحين " عبادة بن الصامت " ، وفي لفظ لمسلم " فمن وفى فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه ، فهو إلى الله إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له " قال الحافظ من أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارته ابن رجب : قوله " " يعم العقوبات الشرعية ، وهي الحدود المقدرة أو غير المقدرة كالتعزيرات ، ويشمل العقوبات القدرية كالمصائب والأسقام والآلام ، فإنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " فعوقب به " وقال أمير المؤمنين لا يصيب المسلم نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه - رضي الله عنه - : الحد كفارة لمن أقيم عليه . وذكر علي بن أبي طالب في هذه المسألة اختلافا بين الناس ورجح أن إقامة الحد بمجرده كفارة ، ووهن القول بخلاف ذلك جدا . ابن جرير الطبري
قال الحافظ ابن رجب : وقد روي عن سعيد بن المسيب : أن إقامة الحد ليس بكفارة ، ولا بد معه من التوبة ، ورجحه طائفة من المتأخرين ، منهم وصفوان بن سليم البغوي ، في تفسيريهما ، وهو قول وأبو عبد الله بن تيمية ، والأول قول أبي محمد بن حزم مجاهد ، وزيد بن أسلم ، والثوري . وأما حديث والإمام أحمد [ ص: 377 ] المرفوع " أبي هريرة لا أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا ؟ " فقد خرجه الحاكم وغيره وعلله ، وقال : لا يثبت ، وإنما هو من مراسيل البخاري وهي ضعيفة ، وغلط الزهري عبد الرزاق فوصله . وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن . الحد كفارة
وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن قال : " فليس صريحا في أن المراد به شيء من الكبائر ; لأن حدود الله محارمه كما قال الله - تعالى - : أصبت حدا فأقمه علي ، فتركه حتى صلى ثم قال : " إن الله قد غفر لك حدك وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه فكل من أصاب شيئا من محارم الله فقد أصاب حدوده وارتكبها وتعداها ، وعلى فرض كونه كبيرة فهذا الرجل جاء نادما تائبا وأسلم نفسه إلى إقامة الحد عليه ، والندم توبة ، والتوبة تكفر الكبائر بغير تردد .
ثم قال الحافظ ابن رجب : والأظهر - والله أعلم - في هذه المسألة ، يعني مسألة - أنه إن أريد أن الكبائر تمحى بمجرد الإتيان بالفرائض ، وتقع مكفرة بذلك كالصغائر باجتناب الكبائر ؛ فهذا باطل ، وإن أريد أنه قد يوازن يوم القيامة بين الكبائر وبين بعض الأعمال فتمحى الكبيرة بما يقابلها من العمل ويسقط العمل فلا يبقى له ثواب ، فهذا قد يقع ، وفي صحيح تكفير الكبائر بالأعمال مسلم عن - رضي الله عنهما - ابن عمر " فجعل أنه ضرب عبدا له ، فأعتقه وقال : ليس لي فيه من الأجر مثل هذا - وأخذ عودا من الأرض - إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من لطم مملوكه ، أو ضربه فإن كفارته أن يعتقه - رضي الله عنهما - أن عتقه كفارة لذنبه ولم يكن ذنبه من الكبائر ، فكيف بما كان من الأعمال المنافية لها ؛ كما يبطل المن الصدقة ، وتبطل المعاملة بالربا ثواب الجهاد ، كما قالت ابن عمر عائشة - رضي الله عنها - لأم ولد : إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب . وقال زيد بن أرقم حذيفة - رضي الله عنه - : قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة . وروي عنه مرفوعا ، أخرجه البزار . وكما يبطل ترك صلاة العصر العمل ، فلا يستنكر أن يبطل ثواب العمل الذي يكفر - الكبائر ، وقد أخرج البزار في مسنده ، والحاكم في مستدركه من حديث - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ابن عباس يؤتى بحسنات العبد وسيئاته يوم القيامة فيقص - أو يقضى - بعضها من بعض ، فإن بقيت له [ ص: 378 ] حسنة وسع له بها في الجنة " وقال في قوله - تعالى - : سعيد بن جبير فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه ، فيستقلون أن يعطوا المسكين تمرة ، أو كسرة ، أو جوزة ، ونحو ذلك ، فيردونه ويقولون ما هذا بشيء ، إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه ، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير كالكذبة ، والنظرة ، والغيبة وأشباه ذلك ، يقولون : إنما أوعد الله النار على الكبائر ، فرغبهم الله في القليل من الخير أن يعطوه ، فإنه يوشك أن يكثر ، وحذرهم اليسير من الشر فإنه يوشك أن يكبر فنزلت ، والذر أصغر النمل خيرا يره يعني في كتابه ، ويسره ذلك ، قال : يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة سيئة واحدة ، وبكل حسنة عشرة حسنات ، فإذا كان يوم القيامة ؛ ضاعف الله حسنات المؤمن أيضا ، بكل واحدة عشرا ، فيمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات ، فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة ؛ دخل الجنة .
فظاهر هذا أنه يقع المقاصة بين الحسنات والسيئات ، ثم تسقط الحسنات المقابلة للسيئات ، وينظر إلى ما يفضل منها بعد المقاصة ، وهذا يوافق من قال بأن من رجحت حسناته على سيئاته بحسنة واحدة أثيب بتلك الحسنة خاصة ، وتسقط باقي حسناته في مقابلة سيئاته ، خلافا لمن قال : يثاب بالجميع وتسقط عنه سيئاته كأنها لم تكن ، وهذا في الكبائر ، وأما الصغائر فإنها قد تمحى بالأعمال الصالحة مع بقاء ثوابها كما قال - صلى الله عليه وسلم - " " ، فأثبت - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأعمال تكفير الخطايا ورفع الدرجات ، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ، إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة " فهذا يدل على أن الذكر يمحو السيئات ويبقى ثوابه لعامله مضاعفا ، كذلك سيئات التائب توبة نصوحا تكفر عنه ، وتبقى له حسناته كما قال - تعالى - : من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير مائة مرة ؛ كتب الله له مائة حسنة ومحا عنه مائة سيئة ، وكانت له عدل عشر رقاب حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة - إلى قوله : وإني من المسلمين قال - تعالى - : أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون [ ص: 379 ] وفي هذا المعنى أخبار كثيرة ، والحاصل أنه يوجد في بعض الأعمال كفارة للذنوب ورفع درجات ، وفي كلام بعض السلف أنه يمحى بإزاء السيئة الواحدة ضعف واحد من أضعاف ثواب الحسنة ، ويبقى له تسع حسنات ، قال الحافظ ابن رجب : والظاهر أن هذا مختص بالصغائر ، وأما في الآخرة فيوازن بين الحسنات والسيئات ويقص بعضها من بعض ، فمن رجحت حسناته على سيئاته فقد نجا ودخل الجنة ، قال : سواء في هذا الصغائر والكبائر ، وهكذا من كان له حسنات ، وعليه مظالم ، فاستوفى المظلومون حقوقهم من حسناته وبقي له حسنة دخل بها الجنة ، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : إن كان وليا لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله حتى يدخل الجنة ، وإن كان شقيا قال الملك : رب فنيت حسناته وبقي له طالبون كثير ، قال : " خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صكوا له صكا إلى النار " أخرجه وغيره . ابن أبي حاتم
قال الحافظ ابن رجب : والمراد : التفضيل من مثقال الذرة من الحسنات إنما هو بفضل الله - عز وجل - لمضاعفته لحسنات المؤمنين وبركته فيها ، وهكذا حال من كانت له حسنات وسيئات وأراد الله رحمته ؛ فضل له من حسناته ما يدخله الجنة ، وكله من فضل الله ورحمته ، فإنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله ورحمته .
وأخرج أبو نعيم بإسناده عن علي - رضي الله عنه - مرفوعا : " أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل : قل لأهل طاعتي من أمتك لا يتكلوا على أعمالهم فإني لا أقاص عبدا الحسنات يوم القيامة ، إن أشاء أعذبه إلا عذبته ، وقل لأهل معصيتي من أمتك لا يلقوا بأيديهم فإني أغفر الذنب العظيم ولا أبالي " ومصداقه قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " " . من نوقش الحساب عذب - وفي رواية - هلك
تتمة : روى - رضي الله عنه - في المسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " الإمام أحمد آدم ، والملائكة تستأذنه أن تعاجله وتهلكه ، والرب - تعالى - يقول : دعوا عبدي فأنا أعلم به إذ أنشأته من الأرض ، إن كان عبدكم فشأنكم به ، وإن كان عبدي فمني إلى عبدي ، وعزتي وجلالي إن أتاني ليلا قبلته ، وإن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا [ ص: 380 ] وإن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، وإن مشى إلي هرولت إليه ، وإن استغفرني غفرت له ، وإن استقالني أقلته ، وإن تاب إلي تبت عليه ، من أعظم مني جودا وكرما وأنا الجواد الكريم ، عبيدي يبيتون يبارزونني بالعظائم ، وأنا أكلؤهم في مضاجعهم وأحرسهم على فرشهم ، من أقبل إلي تلقيته من بعيد ، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد ، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد ، ومن أراد مرادي أردت ما يريد ، أهل ذكري أهل مجالستي ، وأهل شكري أهل زيادتي ، وأهل طاعتي أهل كرامتي ، وأهل معصيتي لا أقنطهم - وفي لفظ - لا أوئسهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب " ، والله الموفق . ما من يوم إلا والبحر يستأذن من ربه أن يغرق بني