قال شيخ الإسلام - قدس الله روحه - : ، فإنه وجب على جميع الخلق الإيمان بالله ورسوله ، ووجب على كل أمة التزام ما يأمر به رسولهم مجملا ، فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله ، ولا يجب على كل عبد من الإيمان المفصل ما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره ، فمن عرف القرآن ، والسنن ومعانيها لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لم يلزم غيره ، ولو آمن الرجل بالله وبالرسول باطنا وظاهرا ، ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين مات مؤمنا بما وجب عليه من الإيمان ، وليس ما وجب عليه ولا ما وقع منه مثل إيمان من عرف الشرائع ، فآمن بها وعمل بها بل إيمان هذا أكمل وقوله - تعالى - : زيادة الإيمان الذي أمر الله به ، والذي يكون من عباده المؤمنين من وجوه أحدها الإجمال ، والتفصيل فيما أمروا به اليوم أكملت لكم دينكم أي في التشريع بالأمر ، والنهي لا أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة ، وأنه فعل ذلك بل الناس متفاضلون في الإيمان أعظم تفاضل .
الثاني : الإجمال ، والتفصيل في ما وقع منهم ، فمن طلب علم التفصيل وعمل به ، فإيمانه أكمل ممن عرف ما يجب عليه ، والتزمه وأقر به ولم يعمل بذلك كله ، وهذا المقر المقصر في العمل إن اعترف بذنبه وكان خائفا من عقوبة ربه على ترك العمل أكمل إيمانا ممن لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول [ ص: 414 ] ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب ، بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول مع أنه مقر بنبوته باطنا وظاهرا ، فكل ما عمل القلب بما أخبر به الرسول فصدقه ، وما أمر به فالتزمه كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك ، وإن كان معه إقرار عام ، والتزام ، وكذلك من عرف أسماء الله - تعالى - وصفاته وآياته كان إيمانه أكمل .
الثالث :
أن ، وأبعد عن الشك ، والريب وهذا أمر يشهده كل واحد من نفسه ، كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد مثل رؤية الناس للهلال ، وإن اشتركوا فيها فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض ، وكذلك سماع الصوت وشم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام ، فكذلك معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعددة للمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الله - تعالى - وكلامه ، ويتفاضل الناس في معرفتها أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها . العلم والتصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت
الرابع :
أن ، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به ، وإذا كان شخصان يعلمان أن الله حق ، والرسول حق ، والجنة حق ، والنار حق ، وهذا عمله أوجب له محبة الله وخشيته ، والرغبة في الجنة ، والهرب من النار ، والآخر علمه لم يوجب له ذلك ، فعلم الأول أكمل ، فإن قوة المسبب تدل على قوة السبب ، وقد نشأت هذه الأمور عن العلم ، فالعلم بالمحبوب يستلزم طلبه ، والعلم بالمخوف يستلزم الهرب منه ، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم ; ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله موسى - عليه السلام - لما أخبره ربه أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح فلما رآهم قد عبدوا ألقاها ، وليس ذلك لشك " ليس الخبر كالمعاينة " فإن موسى في خبر [ ص: 415 ] الله ، لكن المخبر وإن جزم بصدق المخبر فقد لا يتصور المخبر به في نفسه كما يتصوره إذا عاينه ، بل قد يكون قلبه مشغولا عن تصور المخبر به ، وإن كان مصدقا به ، ومعلوم أنه عند المعاينة يحصل له من تصور المخبر به ما لم يكن عند الخبر فهذا التصديق أكمل من ذلك التصديق .
الخامس :
أن كما دل على ذلك الكتاب ، والسنة واتفاق السلف ، وهذا يتفاضل الناس فيه تفاضلا ظاهرا . أعمال القلوب مثل محبة الله ورسوله وخشية الله - تعالى - ورجائه ونحو ذلك ، هي كلها من الإيمان
السادس :
. الأعمال الظاهرة مع الباطنة هي أيضا من الإيمان ، والناس يتفاضلون بها
السابع :
ذكر الإنسان بقلبه ما أمر به واستحضاره بحيث لا يكون غافلا عنه أكمل ممن صدق به وغفل عنه ، فإن الغفلة تنقصه ، وكمال العلم والتصديق والذكر والاستحضار يكمل العلم واليقين ; ولهذا قال عمير بن حبيب - رضي الله عنه - : إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته ، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فتلك نقصانه .
الثامن :
قد يكون الإنسان مكذبا ومنكرا لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها وأمر بها ، ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق ، ولا يأمر إلا بحق ، ثم يسمع الآية ، والحديث ، أو يتدبر ذلك ، أو يفسر له معناه ، أو يظهر له ذلك بوجه من الوجوه فيصدق بما كان مكذبا به ، ويعرف ما كان منكرا له ، وهذا تصديق جديد وإيمان جديد ازداد به إيمانه ولم يكن قبل ذلك كافرا بل جاهلا ، وهذا وإن أشبه المجمل والمفصل لكن صاحب المجمل قد يكون قلبه سليما عن تكذيب وتصديق شيء من [ ص: 416 ] التفاصيل وعن معرفة وإنكار شيء من ذلك ، فيأتيه التفصيل بعد الإجمال على قلب ساذج ، وأما كثير من الناس بل من أهل العلم ، والعبادة فيقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول ، وهم لا يعرفون أنها تخالف ، فإذا عرفوا رجعوا ، وكل من ابتدع في الدين قولا أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول ، أو عمل عملا أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول ، لو عرف ما قاله وآمن به لم يعدل عنه هو من هذا الباب ، وكل مبتدع قصده متابعة الرسول فهو من هذا الباب ، فمن علم ما جاء به الرسول وعمل به أكمل ممن أخطأ ذلك ، ومن علم الصواب بعد الخطأ وعمل به فهو أكمل ممن لم يكن كذلك .