إذا علمت هذا فاعلم أن مذهب سلف الأمة وجل الأئمة أن ، قال الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية في التمهيد : أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية ، قال : والإيمان عندهم يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ، والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن الإمام ابن عبد البر أبي حنيفة وأصحابه ، فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانا ، قالوا : إنما الإيمان التصديق ، والإقرار ، ومنهم من زاد المعرفة - وذكر ما احتجوا به إلى أن قال : وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز ، والعراق ، والشام ومصر ، منهم : ، مالك بن أنس والليث بن سعد ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي والشافعي ، وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن علي ، ، ومن سلك سبيلهم قالوا : الإيمان قول وعمل ، قول باللسان وهو الإقرار ، واعتقاد بالقلب ، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة ، وقالوا : كل ما يطاع الله به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان ، قالوا : والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ، قال ، وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم ، وإنما والطبري ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - " صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر " الحديث ، يريد مستكمل الإيمان ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر إذا صلوا إلى القبلة [ ص: 417 ] وانتحلوا دعوة المسلمين من قراباتهم المؤمنين الذين ليسوا بتلك الأحوال ، ثم قال : وعلى أن الإيمان يزيد وينقص ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية - جماعة أهل الآثار والفقهاء أهل الفتيا في الأمصار ، وهذا مذهب الجماعة من أهل الحديث ، والحمد لله . لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
ثم رد على المرجئة وعلى الخوارج وعلى المعتزلة بالموارثة ، وبحديث " من أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة " وقال : عبادة بن الصامت ، فليس ناقص الإيمان ككامله قال الله - تعالى - : الإيمان مراتب بعضها فوق بعض إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون إلى قوله : حقا أي هم المؤمنون حقا ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث : " " ومعلوم أن هذا لا يكون أكمل حتى يكون غيره أنقص ، وقوله : " أكمل المؤمنين إيمانا " وقوله : " أوثق عرى الإيمان الحب في الله له " يدل على أن بعض الإيمان أوثق وأكمل من بعض ، وكذلك ذكر لا إيمان لمن لا أمانة إجماع أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل ونية . قال الإمام أبو عمر الطلمنكي شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - : لما صنف مناقب الإمام الفخر الرازي - رضي الله عنه - ذكر قوله في الإيمان : إنه قول باللسان وعقد بالجنان وعمل بالأركان - كقول الصحابة والتابعين ، وقد ذكر الإمام الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين ومن لقيه ، استشكل الشافعي الرازي قول الإمام جدا ; لأنه كان انعقد في نفسه شبهة أهل البدع في الإيمان من الشافعي الخوارج ، والمعتزلة ، والجهمية ، والكرامية وسائر المرجئة وهو أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله ، لكن هو لم يذكر إلا ظاهر شبهتهم . قال شيخ الإسلام : والجواب عما ذكره سهل ، فإنه يسلم له أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء - يعني كبدن الإنسان إذا ذهب منه إصبع ، أو يد ، أو رجل ونحوه لم يخرج عن كونه إنسانا بالاتفاق ، وإنما يقال له إنسان ناقص ، مع الصحابة ، والتابعين وسائر السلف يقولون : إن الذنب يقدح في كمال الإيمان ; ولهذا نفى الشارع الإيمان عن هؤلاء ، يعني الزاني والزانية والسارق وشارب الخمر [ ص: 418 ] ونحوهم ، فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعا مع الذنوب ، لكن يقولون بقي بعضه ، إما أصله ، وإما أكثره ، وإما غير ذلك ، فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى بعضه ; ولهذا كانت والشافعي المرجئة تنفر من لفظ النقص أكثر من نفورها من لفظ الزيادة ; لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إن كان متبعضا متعددا عند من يقول بذلك ، وهو الخوارج والمعتزلة ، وأما الجهمية فهو واحد عندهم لا يقبل التعدد فيثبتون واحدا لا حقيقة له ، كما قالوا مثل ذلك في وحدانية الرب - عز وجل - ووحدانية صفاته عند من أثبتها منهم .
قال شيخ الإسلام - روح الله روحه - : ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في هذا اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر ، أو ما هو إيمان وما هو كفر ، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين ، كما ذكر ذلك وغيره ، ولأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا في ما هو مخالف للإجماع الحقيقي إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة بل صرح غير واحد بكفر من قال بقول جهم في الإيمان ; ولهذا نظائر متعددة يقول الإنسان قولا مخالفا للنص والإجماع القديم حقيقة ، ويكون معتقدا أنه متمسك بالنص ، والإجماع ، وهذا إذا كان مبلغ علمه واجتهاده فالله يثيبه على ما أطاع الله فيه من اجتهاده ، ويغفر له ما عجز عن معرفته من الصواب الباطن . قال أبو الحسن الأشعري شيخ الإسلام : وقد قال لي بعضهم مرة : الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان . فقلت له : قولك من حيث هو كقولك من حيث هو إنسان ومن حيث هو حيوان ، ومن حيث هو وجود فتثبت لهذه المسميات وجودا مطلقا مجردا عن جميع القيود ، والصفات ، وهذا لا حقيقة له في الخارج ، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه كما يقدر موجودا لا قديما ولا حادثا ولا قائما بنفسه ولا بغيره ، والماهيات من حيث هي هي شيء يقدر في الأذهان لا في الأعيان ، وهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن ، بل هو مجرد عن كل قيد بل ما ثم إيمان في الخارج إلا مع المؤمنين ، كما ما ثم إنسانية في الخارج إلا ما اتصف بها الإنسان فكل إنسان له إنسانية تخصه وكل مؤمن له إيمان يخصه ، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو ، وليست هي هي ، والاشتراك إنما هو في أمر كلي مطلق يكون [ ص: 419 ] في الذهن ولا وجود له في الخارج إلا في ضمن أفراده ، فإذا قيل إيمان زيد مثل إيمان عمرو ، فإيمان كل واحد يخصه معين ، وذلك الإيمان يقبل الزيادة ، والنقصان ، ومن نفى التفاضل إنما يتصور في نفسه إيمانا مطلقا كما يتصور إنسانا مطلقا ووجودا مطلقا عن جميع الصفات المعينة له ، ثم يظن أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس ، وذلك لا يقبل التفاضل بل لا يقبل في نفسه التعدد إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره ; ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة في الشخص والعين حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علما وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك ، فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود وتصوروا هذا في أنفسهم فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم ، ثم ظنوا أنه الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا - فجعلوا رب العالمين هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصوره ، لا يكون في الخارج أبدا . وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا أعدادا مجردة ، وحقائق مجردة ويسمونها المثل الأفلاطونية ، وزمانا مجردا عن الحركة والمتحرك ، وبعدا مجردا عن الأجسام وصفاتها ، ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج ، وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان ، وتولد من هذا بدع ومفاسد كثيرة ، والله المستعان .
وقال الحافظ ابن حجر في شرح : ذهب السلف إلى أن البخاري ، وأنكر ذلك أكثر المتكلمين ، قال الإمام الإيمان يزيد وينقص النووي : والأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة ; ولهذا كان إيمان الصديق أقوى من إيمان غيره بحيث لا تعتريه الشبهة . وقال : ويؤيده أن كل واحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى إنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا وتوكلا منه في بعضها ، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها . وما نقل عن السلف - يعني أن الإيمان يزيد وينقص - صرح به عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم ، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم ، وكذا نقله في كتاب السنة عن [ ص: 420 ] أبو القاسم اللالكائي الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة ، ويروى بسند صحيح عن قال : لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار ، فما رأيت أحدا منهم يختلف أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص . البخاري
وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك بأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين ، وكل من يدور عليهم الإجماع من الأئمة . وحكاه فضيل بن عياض عن أهل السنة . وقال ووكيع الحاكم في مناقب الإمام : ثنا الشافعي ، أنا أبو العباس الأصم الربيع قال : سمعت - رضي الله عنه - يقول : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص . وأخرجه الشافعي أبو نعيم في ترجمة من الحلية من وجه آخر عن الشافعي الربيع ، وزاد : يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وتلا ويزداد الذين آمنوا إيمانا الآية . انتهى .
وقد روى الإمام أحمد في المسند من حديث - رضي الله عنه - مرفوعا " معاذ بن جبل الإيمان يزيد وينقص " وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث - رضي الله عنه - مرفوعا أيضا . والآثار عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين من أهل السنة والجماعة المعتبرين ، وأئمة أهل الحديث وأعلام علماء الصوفية - أكثر من أن تذكر بأن الإيمان قول باللسان وعقد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة ويضعف بالعصيان ، وقد ذكرنا من ذلك ما لعله يحصل به المقصود ، والله ولي الإحسان . أبي هريرة