الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
واعلم أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعات : ( الأولى ) الشفاعة التي يشفع فيها لأهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتدافعها الأنبياء أصحاب الشرائع آدم إلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، وهي المقام المحمود ، وقد وردت من حديث الصديق الأعظم وأنس وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وحذيفة وعقبة بن عامر وأبي سعيد الخدري ، وسلمان الفارسي ، هؤلاء ورد أمر الشفاعة في أحاديثهم مطولا ، وورد مختصرا من حديث أبي بن كعب ، وعبادة بن الصامت ، وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن سلام ، وغيرهم - رضي الله عنهم ، وأخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :

" يجتمع المؤمنون يوم القيامة ، فيلهمون لذلك اليوم ، فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا [ ص: 205 ] حتى يريحنا من مقامنا هذا ، فيأتون آدم فيقولون :

يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا ، فيقول لهم آدم :

لست هناكم ، ويذكر ذنبه الذي أصاب ، فيستحيي ربه من ذلك ، ويقول :

ولكن ائتوا نوحا ، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، فيأتون نوحا فيقول :

لست هناكم ، ويذكر خطيئته سؤال ربه ما ليس له به علم ، فيستحيي ربه من ذلك ، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن ، فيأتونه ، فيقول :

لست هناكم ولكن ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة ، فيأتون موسى فيقول :

لست هناكم ويذكر لهم النفس التي قتل بغير حق ، فيستحيي ربه من ذلك ، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ، فيأتون عيسى فيقول :

لست هناكم ، ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتونني فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين حتى أستأذن على ربي ، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال : ارفع محمد قل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ، فأرفع رأسي ، فأحمده بتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع
" الحديث .

وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " :

إني لقائم أنتظر متى يعبر الصراط إذ جاءني عيسى ، فقال :

هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألونك ، ويدعون الله أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله إلى غير ما هم فيه ، فالخلق ملجمون بالعرق ، فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة ، وأما الكافر فيغشاه الموت ، فقال : انتظر حتى أرجع إليك ، فذهب نبي الله - صلى الله عليه وسلم ، فقام تحت العرش ، فلقي ما لم يلق ملك مصطفى ، ولا نبي مرسل ، فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد ، وقل له : ارفع رأسك سل تعطه ، واشفع تشفع
" الحديث .

وأخرج الترمذي والبيهقي عن أنس - رضي الله عنه - قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا ، وخطيبهم إذا أنصتوا ، وقائدهم إذا وفدوا ، وشافعهم إذا حبسوا ، ومبشرهم إذا أيسوا ، لواء الكرم بيدي ، ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي ولا فخر ، يطوف علي ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون " .

وروى الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى ، وابن حبان في صحيحه من [ ص: 206 ] حديث الصديق الأعظم - رضي الله عنه - نحو حديث أنس في مراجعته الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، قال إسحاق بن إبراهيم يعني الإمام ابن راهويه : هذا أشرف الحديث .

وقد روى هذا الحديث عدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون مما ذاك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، وتدنو منهم الشمس فيبلغ الناس من الهم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون ، ويقول الناس :

ألا ترون إلى ما أنتم فيه إلى ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض : أبوكم آدم ، فيأتونه فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، وأسكنك الجنة ، ألا تشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا ؟ فيقول :

إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح ، فيحيلهم على إبراهيم ، وإبراهيم على موسى ، وموسى على عيسى ، وعيسى يقول : اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد ، فيأتون فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ، ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك سل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأقول :

أمتي يا رب ، فيقال :

يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ، ثم قال :

والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى
.

وأخرج الإمام أحمد ، وأبو يعلى من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا نحوه ، وفيه أنهم يأتون عيسى بعد آدم ونوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام ، فيقولون لعيسى عليه السلام : اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا ، فيقول : إني لست هناكم ، إني اتخذت إلها من دون الله ، وإني لا يهمني اليوم إلا [ ص: 207 ] نفسي ، ولكن إن كان متاع في وعاء مختوم عليه ، أكان يقدر على ما في جوفه حتى يفض الخاتم ؟ فيقولون : لا ، فيقول :

إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين ، قد حضر اليوم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : فيأتونني ، فيقولون : يا محمد اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا ، فيقول :

أنا لها ، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، فإذا أراد الله أن يصدع بين خلقه نادى مناد أين أحمد وأمته ؟ فنحن الآخرون الأولون ، نحن آخر الأمم وأول من يحاسب ، فتفرج لنا الأمم عن طريقنا ، فنمضي محجلين من أثر الطهور ، فتقول الأمم : كادت هذه الأمم أن تكون أنبياء كلها ، فنأتي باب الجنة ، فآخذ بحلقة الباب فأقرع الباب ، فيقال : من أنت ، فيقول أنا محمد " الحديث ، وفيه : " يا محمد ارفع رأسك ، وسل تعطه ، وقل يسمع ، واشفع تشفع
" .

وفى صحيح البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى كل أمة تتبع نبيها يقولون : يا فلان اشفع لنا ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا .

التالي السابق


الخدمات العلمية