ولما انتهى الكلام على الشفاعة وأقسامها وتفصيلها وأحكامها بحسب ما يليق بالمقام ، أعقب ذلك بذكر العظيمتين دار القرار للأخيار ، ودار البوار للكفار ، وهما فقال : الجنة والنار
( ( وكل إنسان وكل جنة في دار نار أو نعيم جنة ) ) ( ( هما مصير الخلق في كل الورى
فالنار دار من تعدى وافترى ) ) ( ( ومن عصى بذنبه لم يخلد
وإن دخلها يا بوار المعتدي ) )
( ( وكل إنسان ) ) من بني آدم ، فالإنس والإنسان من البشر ، والواحد إنسي وأنسي ، والجمع أناسي والمرأة إنسان ، وبالهاء عامية كما في القاموس قال : وسمع في شعر كأنه مولد :
لقد كستني في الهوى ملابس الصب الغزل
إنسانة فتانة بدر الدجى منها خجل
إذا زنت عيني بها فبالدموع تغتسل
( ( وكل جنة ) ) بكسر الجيم وتشديد النون مفتوحة طائفة الجن ، والجان اسم للجن ، أي : كل واحد من الثقلين الذين هما الإنس والجن لابد أن [ ص: 219 ] يكون ( ( في ) ) إحدى الدارين إما في ( ( دار نار ) ) وهي دار البوار ومقر الكفار ، وهي جسم لطيف محرق يطلب العلو تذكر وتؤنث ، وألفها منقلبة عن واو بدليل تصغيره على نويرة ، وتجمع جمع قلة على نيرة وأنوار ، وجمع كثرة على نيران ونور ، والنور ضوءها وضوء كل نير ، وهو ضد الظلمة ، أعلاها جهنم ، فلظى ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية ، وباب كل واحدة منها من داخل الأخرى على الاستواء كما قاله والنار سبع طبقات ابن عطية وغيره ( ( أو ) ) في دار ( ( نعيم ) ) مقيم في ( ( جنة ) ) المولى الكريم الرءوف الرحيم ، فكل واحدة من الجنة والنار حق ثابت في الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وكل ما هو كذلك فالإيمان به واجب ، واعتقاد وجوده حق لازب ، والمراد من الجنة دار الثواب ، ومن النار دار العقاب ( ( هما ) ) أي : الجنة والنار ( ( مصير الخلق ) ) من الإنس والجن ، أي لابد لكل واحد ( ( من كل الورى ) ) كفتي الخلق من الإنس والجن ، بل ومن الملائكة ، فإنهم يكونون في الجنة كما يأتي ، أن يصير إما إلى الجنة وإما إلى النار وإما أهل الأعراف ، فإن مصيرهم إلى الجنة كما يأتي ( ( فالنار التي هي دار الهوان والبوار ، فهي ( ( دار من ) ) أي كل شخص من إنس وجن ( ( تعدى ) ) طوره ، وخالف مولاه فكفر به ، أو بأحد من رسله ، أو بكتاب من كتبه ، أو شرع من شرعه على لسان نبي بعثه ، ولم ينسخه ( ( وافترى ) ) فيما عبد ، واجترأ بما قصد ، فلم يقف عند الحدود ، ولم يف بالعهد الموعود ، فكل من حكم الشرع بكفره من كافر أصلي من أهل الشرك وعبدة الأوثان والكواكب والنيران ، وأهل الشرائع المنسوخة بعد النسخ والتبديل من أهل التوراة والإنجيل فهم خالدون مخلدون في النار ، ودار الخزي والبوار ( ( من ) ) أي وكل عبد مؤمن بالله ورسوله ، ولو مبتدعا لم يحكم الشرع بكفره ( ( عصى ) ) بمخالفة ربه ، وتعدى حدوده ( ( بذنبه ) ) ، ولو كان ذنبه من أكبر الكبائر كالقتل والزنا وأكل الربا ، ومات على الإيمان ولو لم يتب ( ( لم يخلد ) ) في النار ( ( وإن دخلها ) ) ليتطهر من الأوزار ، فإنه يخرج منها إما بشفاعة الشافعين ، أو رحمة أرحم الراحمين كما تقدم ( ( يا بوار ) ) أي يا هلاك ( ( المعتدي ) ) إشارة إلى تقبيح ما ذهبت إليه المعتزلة من زعمهم أن من دخل النار ، فهو خالد فيها لأنه إما كافر ، أو صاحب كبيرة [ ص: 220 ] مات بلا توبة إذ المعصوم والتائب وصاحب الصغيرة إذا اجتنب الكبائر ليسوا من أهل النار على ما سبق من أصولهم ، والكافر مخلد بالإجماع بخلاف العاصي ، وتقدم الكلام على ذلك بما فيه كفاية ، وإن في مشيئة الله إن شاء عفا عنه ولم يعذبه ، وإن شاء عذبه ثم يخرجه ، وأما خلود المؤمن المصر ، فهو مذهب مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب الخوارج والمعتزلة ، وأهل الحق على خلافه ، وهو الحق الذي لا مرية فيه ، والله أعلم .