اعلم أن ، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا بلا انفصام ، ولكن بحمد الله - تعالى - لم يتنازعوا في مسألة واحدة من الصحابة الكرام قد تنازعوا في كثير من مسائل الأحكام ، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة على كل حال ، فكلمتهم واحدة من أولهم إلى آخرهم ، لم يسوموها تأويلا ، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا ، ولم يبدوا لشيء منها إبطالا ، ولا ضربوا لها مثالا ، ولم يدفعوا عن صدورها وأعجازها ، ولم يقل أحد منهم : يجب صرفها عن حقائقها ، وحملها على مجازها . بل تلقوها بالقبول والتسليم ، وقابلوها بالإيمان والتعظيم ، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوا القرآن عضين ، فأقروا ببعض آيات الصفات ، وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين ، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم لهم فيما أقروا به وأثبتوه ، فأهل الإيمان إذا تنازعوا في شيء من القرآن ، ردوه إلى الله ورسوله كما رتب عليه الإيمان ، فكل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين ، دقه وجله ، جليه وخفيه ، ردوه إليهما ، فلو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بيان ما تنازعوا فيه ، لم يأمر الله بالرد إليه ، إذ من الممتنع أن يأمر الله - تعالى - بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع ، وقد أجمع الناس على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إليه نفسه في حياته ، وإلى سنته - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته ، وقد جعل الله هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه ، فإذا انتفى انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين ، فإنه من الطرفين ، فكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ، وقد نهى الصديق ثم الفاروق ومن بعدهما من الصحابة عن القول بالرأي ، حتى قال مسائل الأسماء والصفات والأفعال عمر - رضي الله عنه : إن أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها ، وتفلتت منهم أن يحفظوها ، فقالوا في الدين برأيهم ، فضلوا وأضلوا . وقال - رضي الله عنه : أيها الناس ، اتهموا الرأي في الدين ، فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول [ ص: 7 ] الله - صلى الله عليه وسلم - برأيي ، فأجتهد ولا آلو ، وذلك يوم - ( يعني : يوم قضية أبي جندل الحديبية ) .
وأضل كل رأي وأبطله وأفسده وأعطله الرأي المتضمن لتعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم ، حيث استعملوا قياساتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة ، وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة والآيات الصريحة ، فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم ، وحرفوا المعاني التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلا ، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب ، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل ، فأنكروا رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة ، وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده ، وأنكروا مباينته للعالم واستواءه على عرشه ، وعموم قدرته ، وحرفوا النصوص عن مواضعها ، وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته أنه زبالة الأذهان ، ونخالة الأفكار ، وعصارة الآراء ، ووساوس الصدور ، فملئوا به الأوراق سوادا ، والقلوب شكوكا ، والعالم فسادا ، فكل من له مسكة من علم ودربة من فهم ، يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي ، والهوى على النقل ، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه ، ولا في أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد .
وقد قال الإمام أحمد - رضي الله عنه : رأي فلان ورأي فلان ورأي فلان عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار . وروى بسنده ، عن ابن عبد البر ، عن أبيه - رضي الله عنه : عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل
دين النبي محمد آثار نعم المطية للفتى الأخبار لا تعد عن علم الحديث وأهله
فالرأي ليل والحديث نهار ولربما جهل الفتى طرق الهدى
والشمس طالعة لها أنوار
وقال بعض أهل العلم وأحسن :
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين النصوص وبين رأي فقيه
[ ص: 8 ] كلا ولا رد النصوص تعمدا حذرا من التجسيم والتشبيه
حاشا النصوص من الذي رميت به من فرقة التعطيل والتمويه
ثم إن الرأي المذموم هو الرأي المجرد الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا قياس جلي ، بل هو خرص وتخمين ، فهذا الرأي الذي ورد التحذير منه والتنفير عنه ، وأما الرأي المستند إلى الاستدلال والاستنباط من النص وحده ، أو من نص آخر معه في الأحكام ، فهذا من ألطف فهم النصوص وأدقه ، وما ورد عن السلف مما يشعر بمدح الرأي وقبوله ، فالمراد به هذا ، والله أعلم .