الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( ( وقيل أهل أحد المقدمه والأول أولى للنصوص المحكمه ) )



وقوله ( ( وقيل أهل ) ) غزوة جبل ( ( أحد المقدمة ) ) أي في الزمن والأفضلية إشارة إلى أن الأصح الأفضل أهل بدر ، فأهل أحد ، فأهل البيعة ، وقوله ( ( والأول ) ) وهو تقديم أهل البيعة في الأفضلية على أهل غزوة أحد ( ( أولى ) ) وأحق وأحرى بذلك ، وذلك ( ( لـ ) ) ورود ( ( النصوص المحكمة ) ) من الكتاب والسنة من أحاديث نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت غزوة أحد في نصف شوال سنة ثلاث أول نهار السبت ، وفي الفتح لإحدى عشر خلت منه ، وقيل لتسع وقيل لثمان وقيل لسبع . وأحد - بضم الهمزة والحاء والدال المهملتين - هو جبل أحمر ليس بذي شناخب ، بينه وبين المدينة [ ص: 367 ] أقل من فرسخ ، وهو في شمالها إلى الشرق ، روى الشيخان عن أنس - رضي الله عنه - ، وابن أبي شيبة ، والطبراني بسند جيد عن سويد بن عامر الأنصاري ، والبخاري عن أبي حميد الساعدي ، والبخاري عن سهل بن سعد ، والطبراني عن أبي هريرة وغيرهم - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأحد لما بدا له : " هذا جبل يحبنا ونحبه " . وتكرر منه - صلى الله عليه وسلم - هذا القول مرات ، وفي الطبراني عن سهل بن سعد مرفوعا : " أحد ركن من أركان الجنة " .

قال ياقوت : أحد اسم مرتجل لهذا الجبل . وقال السهيلي : سمي أحدا لتوحده وانقطاعه عن جبال أخر هناك ، أو لما وقع من أهله من نصرة التوحيد ، ولا أحسن من اسم مشتق من الأحدية ، وأهله هم الأنصار نصروا التوحيد ، والمبعوث بدين التوحيد عنده استقر حيا وميتا .

إذا علمت هذا فظاهر كلام متكلمي الأشاعرة أن أهل غزوة أحد يلون أهل بدر في الأفضلية ، وكان عدة أهل غزوة أحد بعد انخزال ابن أبي سبعمائة ، وكان المشركون ثلاثة آلاف ، وعدة من استشهد يومئذ من المسلمين سبعون رجلا ، منهم أربعة من المهاجرين ، وهم سيد الشهداء حمزة ومصعب وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان ، وسائرهم من الأنصار ، وزاد بعضهم من المهاجرين مولى حاطب بن أبي بلتعة ، وثقف بن عمرو الأسلمي حليف بني عبد شمس ، وهذا يوافق ما رواه ابن حبان ، والحاكم عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال : أصيب يوم أحد من الأنصار أربعة وستون ، ومن المهاجرين ستة . والذي يظهر لي - والله أعلم - أنه إن أريد شهداء أحد فنعم ، وإلا فيحتاج إلى توقيف فتفطن له . فقد وردت الأحاديث في فضل شهداء أحد كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حق عبد الله والد جابر - رضي الله عنهما - : " ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه " . رواه البخاري .

وأخرج ابن المنذر عن أنس - رضي الله عنه - قال : لما قتل حمزة وأصحابه يوم أحد قالوا : يا ليت لنا مخبرا يخبر إخواننا بالذي صرنا إليه من كرامة الله تعالى لنا ، فأوحى إليهم - سبحانه وتعالى - أنا رسولكم إلى إخوانكم فأنزل الله - عز وجل - : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) - إلى قوله - ( لا يضيع أجر المؤمنين ) . وأخرج الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : [ ص: 368 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله تعالى أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مشربهم ، وحسن مقيلهم ، قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله تعالى لنا - وفي لفظ قالوا : - من يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق ، لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب ؟ فقال الله - عز وجل - : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله تعالى هؤلاء الآيات : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) إلى آخر الآيات ، وروى نحوه عبد الرزاق في المصنف ، وابن أبي شيبة ، والإمام أحمد في المسند ، ومسلم في الصحيح من حديث ابن مسعود .

وكان - صلى الله عليه وسلم - يزور شهداء أحد ، فإذا بلغ فرضة الشعب يقول : " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ، ثم كان أبو بكر - رضي الله عنه - بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله وكذا عمر ، وعثمان - رضي الله عنهما - ، ولما أجرى معاوية - رضي الله عنه - العين فمرت على الشهداء ، فأخرجهم طرايا تنثني أطرافهم ، وجدوا والد جابر ويده على جرحه ، فأميطت يده عن جرحه ، فانبعث الدم ، فردت إلى مكانها ، فسكن الدم ، قال جابر : فرأيت أبي في حفرته كأنه نائم ، والنمرة التي كفن فيها كما هي ، وكان ذلك بعد أحد بست وأربعين سنة ، وأصابت المسحاة رجل رجل منهم وهو حمزة ، فانبعث الدم ، فقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - : لا ينكر بعد هذا منكر ، وكانوا وهم يحفرون يفيح عليهم من القبور ريح المسك .

وروى الحارث في مسنده عن سعد بن أبي وقاص ، والحاكم عن جابر بن عبد الله - رضى الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذكر أصحاب أحد يقول : " أما والله لوددت أني غودرت مع أصحابي بنحض الجبل " . - يعني شهداء أحد - والأحاديث في ذلك كثيرة جدا .

وأما أهل الشجرة - يعني أهل البيعة - وهم أصحاب الحديبية فقد وردت النصوص المحكمة في فضلهم كما سنذكر طرفا من ذلك ، والحديبية - بحاء مضمومة فدال مهملتين والدال مفتوحة ، فموحدة مكسورة فتحتية مفتوحة بالتخفيف والتشديد - قالالنحاس : سألت كل من لقيت ممن أثق به من أهل [ ص: 369 ] العلم عن الحديبية ، فلم يختلفوا على قراءتها مخففة ، ونص في البارع على التخفيف ، وحكي التشديد عن ابن سيده في المحكم ، قال في تهذيب المطالع : ولم أره لغيره ، وزعم بعضهم أن التشديد لم يسمع في فصيح ، وقال الإمام النووي : هما وجهان مشهوران ، قال البكري : قريبة من مكة أكثرها من الحرم ، وفي صحيح البخاري عن البراء - رضي الله عنه - والحديبية بئر ، قال الحافظ ابن حجر يشير إلى المكان المسمى بالحديبية : سمي ببئر كانت هناك هذا اسمها ، ثم عرف المكان كله بذلك ، وبينها وبين مكة نحو مرحلة واحدة ، ومن المدينة تسع مراحل ، وكانت في ذي القعدة من السنة السادسة ، وكان عدة المسلمين الذين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم أربع عشرة مائة وأكثر من ذلك ، ولعل الزائد على الألف وأربع مائة من الخدام والأتباع ، وأما نفس المقاتلة فأربع عشرة مائة ، وأما قول ابن إسحاق كانوا سبعمائة فغلط لم يوافق عليه ، وكان سبب البيعة أن قريشا لما صدت النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين عن المسجد الحرام ، فبعث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وقال له : اذهب إلى قريش وأخبرهم أنا لم نأت لقتال ، إنما جئنا عمارا ، وادعهم إلى الإسلام ، ثم بلغه أن عثمان - رضي الله عنه - قد قتلته قريش . فدعا الناس إلى البيعة وقال : " لا نبرح حتى نناجز القوم " .

روى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - ، والبيهقي عن عروة ، وابن إسحاق عن الزهري ، ومحمد بن عمر عن شيوخه قال سلمة - رضي الله عنه - بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيها الناس البيعة البيعة ، نزل روح القدس ، فاخرجوا على اسم الله . قال سلمة : فسرنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه . وفي صحيح مسلم قال : فبايعته أول الناس ، ثم بايعته وسط الناس ، ثم بايعته آخر الناس . والصحيح أن الذي بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول الناس في تلك البيعة أبو سنان الأسدي ، فقال : ابسط يدك أبايعك . فقال - صلى الله عليه وسلم - : علام تبايعني ؟ قال : على ما في نفسك . قال : وما في نفسي ؟ قال : أضرب بسيفي بين يديك حتى يظهرك الله أو أقتل . فبايعه وبايعه الناس على بيعة أبي سنان ، وضرب [ ص: 370 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإحدى يديه على الأخرى عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، وقال : اللهم إن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك ، فكانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم ، ثم تبين كذب الخبر بقتل عثمان - رضي الله عنه - فقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ومن معه ، وكانوا عشرة وذلك بعد البيعة ، ثم كانت الهدنة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش . وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : كنا في الحديبية ألفا وأربعمائة ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنتم خير أهل الأرض .

وروى الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي عن جابر بن عبد الله أيضا - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة " . وأخرج الإمام أحمد أيضا بسند رجاله ثقات عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل الحديبية : " لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم " . وسأل أبو الزبير جابرا : كم كانوا يوم الحديبية ؟ قال : كنا أربع عشرة مائة فبايعناه ، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ، فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعير ، وقال : بايعناه على أن لا نفر ، وعند ابن إسحاق قال جابر - رضي الله عنه - : فكأني أنظر إليه - يعني إلى الجد بن قيس - لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها - وهو بفتح الضاد والموحدة مهموزا أي اختبأ بها يستتر بها عن الناس - فبايعناه على أن لا نفر ، ولم نبايعه على الموت .

وهذا الجد بن قيس الذي لم يبايع كان يرمى بالنفاق ، وعده الحافظ ابن الجوزي في منتخب المنتخب من المنافقين ، وقد نزل في حقه في غزوة تبوك ما يشعر بذلك ، وهو ابن عمة البراء بن معرور ، وكان سيد بني سلمة - بكسر اللام - في الجاهلية ، فسود النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن الجموح ، وقيل : سود عليهم بشر بن البراء بن معرور ، ومال إليه ابن عبد البر ، وأخرج الترمذي عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليدخلن الجنة من بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر " . ومن ثم قال [ ص: 371 ] ابن عبد البر : ليس في غزواته - صلى الله عليه وسلم - ما يعادل بدرا ، أو يقرب منها إلا غزوة الحديبية ، وقيل : صاحب الجمل الأحمر غير الجد بن قيس ، يدل له ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده لقد غفر للركب أجمعين إلا رويكبا واحدا على جمل أحمر التفت عليه رحال القوم ليس منهم " . وقال - صلى الله عليه وسلم - : " كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر " .

قال أبو سعيد - رضي الله عنه - : فطلب في العسكر ، فإذا هو عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، والرجل من بني ضمرة ، من أهل سيف البحر ، يظن أنه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقيل لسعيد - رضي الله عنه - : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كذا وكذا . فقال له سعيد : ويحك اذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لك . وقال جابر : فقلنا له : تعال يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي ، وإذا هو قد أضل بعيرا له ، فانطلق يطلب بعيره بعد أن استبرأ العسكر وطلبه فيهم ، فبينما هو في جبل سراوع إذ زلقت به نعله ، فتردى فمات فما علم به حتى أكلته السباع
. وقصة هذا قبل البيعة إذ هذا ليس من عسكر المسلمين بخلاف الجد بن قيس ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية