الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الثانية ) : ما أشار إليها بقوله ( و ) يجب له - سبحانه وتعالى - ( الكلام ) ، أي [ ص: 133 ] يجب الجزم بأنه - تعالى - متكلم بكلام قديم ذاتي وجودي ، غير مخلوق ولا محدث ولا حادث ، لا يشبه كلام الخلق ، قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية في شرح " رسالة الأصفهاني " الإمام المتكلم الأشعري : قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله - تعالى - متكلم بكلام قائم بذاته ، وأن كلامه - تعالى - غير مخلوق ، وأنكروا على الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم : إن كلامه - تعالى - مخلوق ، خلقه في غيره ، وأنه كلم موسى بكلام خلقه في الشجرة ، وكلم جبريل بكلام خلقه في الهواء ، واتفق أئمة السلف على أن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود . قال : ومعنى قولهم منه بدأ : أي هو المتكلم به ، لم يخلقه في غيره ، كما قالت الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم بأنه بدأ من بعض المخلوقات ، وأنه - سبحانه - لم يقم به كلام . قال : ولم يرد السلف أنه كلام فارق ذاته ، فإن الكلام وغيره من الصفات لا يفارق الموصوف ، بل صفة المخلوق لا تفارقه وتنتقل إلى غيره ، فكيف صفة الخالق تفارقه وتنتقل إلى غيره ؟ ولهذا قال سيدنا الإمام أحمد : كلام الله ليس ببائن من خلقه في بعض الأجسام . قال شيخ الإسلام : ومعنى قول السلف " وإليه يعود " ، ما جاء في الآثار " إن القرآن يسرى به حتى لا يبقى في المصاحف منه حرف ، ولا في القلوب منه آية ، وما جاءت به الآثار عن النبي المختار - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين ، كالحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند ، وكتبه إلى المتوكل في رسالته التي أرسل بها إليه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه . يعني القرآن ، وفي لفظ : " بأحب إليه مما خرج منه " ، وقول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لما سمع كلام مسيلمة - إن هذا كلام لم يخرج من ال - أي من رب ، وقول ابن عباس - رضي الله عنهما - لما سمع قائلا يقول لميت لما وضع في لحده : اللهم رب القرآن ، اغفر له ، فالتفت إليه ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال : مه ، القرآن كلام الله ليس بمربوب ، منه بدأ وإليه يعود . وهذا الكلام معروف عن ابن عباس - رضي الله عنهما .

وقول السلف : القرآن كلام الله غير [ ص: 134 ] مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، كما استفاضت الآثار عنهم بذلك ، كما هو منقول عنهم في الكتب المسطورة بالأسانيد المشهورة ، ( قال ) شيخ الإسلام في شرح " الأصفهانية " : وهذه الروايات لا يدل شيء منها على أن الكلام يفارق المتكلم وينتقل إلى غيره ، وإنما تدل على أن الله هو المتكلم بالقرآن ومنه سمع ، لا أنه خلقه في غيره ، كما فسره بذلك الإمام أحمد - رضي الله عنه - وغيره من الأئمة ، قال أبو بكر الخلال : سئل الإمام أحمد عن قوله : القرآن كلام الله ، منه خرج وإليه يعود ، فقال الإمام أحمد : منه خرج هو المتكلم به ، وإليه يعود يعني ما قدمنا . فإن قيل : هل كلام الباري - جل وعلا - صفة ذات أو صفة فعل ؟ فالجواب مذهب سلف الأمة ومحققي الأئمة ، أنه صفة ذات وفعل معا ، فإن صفة الكلام لله - عز شأنه - ثابتة بإجماع الأنبياء على ذلك ، فيتكلم إذا شاء ومتى شاء بلا كيف ، فإن الكلام صفة كمال لا نقص فيه ، فالرب أحق أن يتصف بالكلام من كل موصوف بالكلام ، إذ كل كمال لا نقص فيه يثبت للمخلوق ، فالخالق أولى به ; لأن القديم الواجب الخالق أحق بالكمال المطلق من المحدث الممكن المخلوق ، ولأن كل كمال يثبت للمخلوق فإنما هو من الخالق ، وما جاز اتصافه به من الكمال وجب له ، فإنه لو لم يجب له لكان إما ممتنعا ، وهو محال بخلاف الفرض ، وإما ممكنا فيتوقف ثبوته له على غيره ، والرب - تعالى - لا يحتاج في ثبوت كماله إلى غيره ، فإن معطي الكمال أحق بالكمال ، فيلزم أن يكون غيره أكمل منه لو كان غيره معطيا له الكمال ، وهذا محال ، بل هو - جل شأنه - بنفسه المقدسة مستحق لصفات الكمال ، فلا يتوقف ثبوت كونه متكلما على غيره ، فيجب ثبوت كونه متكلما وأن ذلك لم يزل ولا يزال ، والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازما له بدون قدرته ومشيئته ، والذي لم يزل يتكلم إذا شاء أكمل ممن صار الكلام يمكنه بعد أن لم يكن الكلام ممكنا له ، وحينئذ فكلامه ( قديم ) مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته .

( وقال ابن كلاب ) ومن وافقه : كلامه - تعالى - صفة ذات لازم لذاته كلزوم الحياة ، ليس هو متعلقا بمشيئته وقدرته ، بل هو قديم كقدم الحياة ، إذ لو - قلنا إنه بقدرته ومشيئته ، لزم أن يكون حادثا ، فيلزم أن يكون [ ص: 135 ] مخلوقا أو قائما بذات الرب ، فيلزم قيام الحوادث به ، وذلك يستلزم تسلسل الحوادث ; لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ، قالوا : وتسلسل الحوادث ممتنع إذ التفريع على هذا الأصل . ثم إن هؤلاء لما قالوا بقدم عين الكلام تنازعوا ، فقالت طائفة : القديم لا يكون حروفا ولا أصواتا ; لأن الصوت يستحيل بقاؤه كما يستحيل بقاء الحركة ، وما امتنع بقاؤه امتنع قدم عينه بطريق الأولى والأحرى ، فيمتنع قدم شيء من الأصوات المعينة ، كما يمتنع قدم شيء من الحركات المعينة ; لأن تلك لا تكون كلاما إلا إذا كانت متعاقبة ، والقديم لا يكون مسبوقا بغيره ، فلو كانت الميم من بسم الله قديمة مع كونها مسبوقة بغيرها ، لكان القديم مسبوقا بغيره ، وهذا ممتنع ، فيلزم أن يكون القديم هو المعنى فقط ، ولا يجوز تعدده ; لأنه لو تعدد ، لكان اختصاصه بقدر دون قدر ترجيحا بلا مرجح ، وإن كان لا يتناهى لزم وجود أعداد لا نهاية لها في آن واحد ، قالوا : وهذا ممتنع ، فيلزم أن يكون معنى واحدا هو الأمر والنهي والخبر وهو معنى التوراة والإنجيل والزبور والفرقان . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه : وهذا أصل قول الكلابية والأشعرية ومن وافقهم .

وقالت طائفة من أهل الكلام والحديث والفقهاء وغيرهم : إنه حروف قديمة الأعيان ، لم تزل ولا تزال ، وهي مترتبة في ذاتها لا في وجودها ، كالحروف الموجودة في المصحف ، وليس بأصوات قديمة . ومنهم من قال : بل هو أصوات أيضا قديمة . ولم يفرق هؤلاء بين الحروف المنطوقة التي لا توجد إلا متعاقبة ، وبين الحروف المكتوبة التي توجد في آن واحد ، كما يفرق بين الأصوات والمداد ، ويمتنع أن يكون الصوت المعين قديما ; لأن ما وجب قدمه لزم بقاؤه وامتنع عدمه ، والصوت لا يبقى . وأما الحروف المكتوبة فقد يراد بها نفس الشكل القائم بالمداد ، أو ما يقدر بقدر المداد ، كالشكل المصنوع في حجر أو ورق بإزالة بعض أجزائه ، وقد يراد بالحروف نفس المداد . وأما الحروف المنطوقة ، فقد يراد بها أيضا الأصوات المقطعة المؤلفة ، وقد يراد بها حدود الأصوات وأطرافها ، كما يراد بالحرف في الجسم حده [ ص: 136 ] ومنتهاه ، فيقال : حرف الرغيف وحرف الجبل ، ومنه قوله - تعالى : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) ، وقد يراد بالحروف الحروف الحالية ، وهو ما يتشكل في باطن الإنسان من الكلام المؤلف المنظوم قبل أن يتكلم به . وقد تنازع الناس ، هل يمكن وجود حروف بدون أصوات في الحي الناطق ؟ على قولين لهم ، وعلى هذا تنازعت هذه الطائفة القائلة بقدم أعيان الحروف ، هل تكون قديمة بدون أصوات ، أم لا بد من أصوات قديمة لم تزل ولا تزال ؟ ثم القائلون بقدم الأصوات المعينة تنازعوا في المسموع من القارئ ، هل يسمع منه الصوت القديم ؟ فقيل : المسموع منه هو الصوت القديم ، وقيل : بل صوتان : أحدهما القديم ، والآخر المحدث ، فما لا بد منه في وجود القرآن فهو القديم ، وما زاد على ذلك فهو المحدث . وقيل : بل الصوت القديم غير المسموع من العبد . وهذا كله كلام من لا يعول على كلامه من الفرق المائلة . والذين قالوا إن كلامه - تعالى - صفة فعل ، هم الذين يقولون إن القرآن مخلوق ، وبين الفريقين بون ، الأولون يقولون إن التكليم والنداء ليس إلا مجرد خلق إدراك المخلوق ، بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال ، لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ولا تكليم ، بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعا لما كان موجودا قبل سمعه بمنزلة جعل الأعمى بصيرا لما كان موجودا قبل رؤيته عن غير إحداث شيء منفصل عن الأعمى ، فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي ، ولهذا يقولون : إنه يسمع كلامه لخلقه بدل قول الناس إنه يكلم خلقه . وأما الآخرون وهم الخلقية الذين يقولون : إن القرآن مخلوق ، خلقه الله - تعالى - في جسم من الأجسام المخلوقة ، كما هو قول الجهميين الذين قالوا بخلق القرآن من المعتزلة والنجارية والضرارية ، ولا يخفى أن قوله - تعالى : ( منزل من ربك ) مبطل لهذا ولقول من يقول : إن القرآن العربي ليس منزلا من الله ، بل مخلوق ، إما في جبريل أو محمد أو الهواء ، أو ألهمه جبريل أو محمد أو الهواء ، أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي ، أو يكون أخذه جبريل من اللوح المحفوظ أو غيره ، فهذا قول من يقول [ ص: 137 ] : إن القرآن العربي ليس هو كلام الله ، وإنما كلامه المعني القائم بذاته ، والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى ، وهذا قول الكلابية والأشعرية في نفس القرآن العربي الذي جاء به جبريل من رب العالمين ، فبلغه للنبي الأمين ، وأخبرنا الله ورسوله أنه كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين . وقالت طائفة : بل الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم ، ويمتنع أن يكون كلامه مخلوقا في غيره ، والحق - جل شأنه - متكلم بمشيئته وقدرته ، فيكون كلامه حادثا كان بعد أن لم يكن ، وهذا قول الكرامية ومن نحا نحوهم ، ثم من هؤلاء من يقول : كلامه كله حادث لا محدث ، ومنهم من يقول هو حادث ومحدث .

التالي السابق


الخدمات العلمية