( السابعة ) ما أشار إليها بقوله ( واقتدر ) ، جل شأنه على إيجاد الموجودات وخلق الممكنات ( بقدرة ) ، وهي صفة أزلية تؤثر في المقدورات عند تعلقها بها ، فإنه - جل شأنه - قادر على جميع الممكنات باتفاق المتكلمين وكذا الحكماء ، لكن عبارة عن صحة الفعل والترك ، وعند الحكماء عبارة عن كونه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل . ومقدمة الشرطية الأولى بالنسبة إلى وجود العالم دائم الوقوع ، ومقدمة الشرطية الثانية بالنسبة إلى وجود العالم دائم أن لا وقوع ، وصدق الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها ، ولا ينافي كذبهما ، ودوام الفعل وامتناع الترك بسبب الغير لا ينافي الاختيار ، كما أن العاقل ما دام عاقلا يغمض عينه كلما قرب إبرة من عينه بقصد الغمز فيها من غير تخلف مع أنه يغمضها بالاختيار ، وامتناع ترك الإغماض بسبب كونه عالما بضرر الترك لا ينافي الاختيار ، فما ظنك بمن يكون علمه عين ذاته ، كل هذا على رأي الحكماء القائلين أن المقتضي لقدرته هو الذات ، والمصحح للمقدورية هو الإمكان ، فإذا ثبتت قدرته على البعض ثبتت على الكل ; لأن العجز عن البعض نقص ، وهو على الله - تعالى - محال ، مع أن النصوص قاطعة بعموم القدرة ، كقوله - تعالى : ( القدرة عند المتكلمين وهو على كل شيء قدير ) ، قال الأصفهاني في عقيدته : ، وهو إما بالذات ، وهو محال ، وإلا لكان العالم وكل مخلوقاته قديما وهو باطل ، فتعين أن يكون فاعلا بالاختيار وهو المطلوب . قال الدليل على قدرته إيجاده الأشياء شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه : قد يقال هذا إنما أثبت به كونه فاعلا بالاختيار يثبت الإرادة لا يثبت القدرة ، ثم قال في إثبات القدرة : وتقرير ذلك أن يقال : إما أن يكون المبدع للأشياء مجرد ذات عرية عن الصفات مستلزمة وجود المفعول ، كما يقوله المتفلسفة القائلون بقدم الأفلاك وصدورها عن ذات مجردة ، وإما أن تكون ذاتا موصوفة بصفات لا يجب معها وجود المخلوقات كما عليه أهل الملل ، والأول باطل ; لأنه يستلزم أن لا يحدث في العالم شيء ; لأن العلة التامة القديمة يجب أن تستلزم معلولها ، فلا يتأخر شيء من معلولها ; لأنها عن الأزل وهو خلاف الحس والمشاهدة ، وهذا الوجه يبطل قولهم بالموجب [ ص: 151 ] بالذات وتقدم شيء بعينه من أجزاء العالم ، وسواء فسروا الموجب بذات مجردة مستلزمة للموجب ، أو بذات موصوفة مستلزمة للموجب ، فإن القول بكون المبدع ملزوما لموجبه ومقتضاه مع تأخر بعض ذلك عن الأزل جمع بين النقيضين . . . إلى أن قال : فالصفة التي يصلح بها الفعل هي القدرة ، أو يقال : فإذا لم يكن موجبا بذاته بل بصفة ، تعين أن يكون مختارا ، فإنه إما موجب بالذات ، وإما فاعل مختار بالاختيار ، والمختار إنما يفعل بالقدرة ، إذ القادر هو الذي إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، فأما من يستلزمه المفعول بدون إرادته ، فهذا ليس بقادر ، بل ملزوم بمنزلة الذي تستلزمه الحركات الطبيعية الذي لا قدرة له على فعلها ولا تركها ، وحقيقة الأمر أن العلم بكون الفاعل قادرا علم ضروري . إلى أن قال : صفة الحي تسمى قدرة ، وإذا كانت أكمل من غيرها سميت قوة ، قال - تعالى : ( وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ) ، وقد ذكر قوله : ( أشد منهم قوة ) في غير موضع ، وقال - تعالى : ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) ، ثم قال : والذي دل عليه الكتاب والسنة ، وكان عليه سلف الأمة وأئمتها ، أن الله يخلق الأشياء بالأسباب ، فالقوى التي جعلها الله في الحيوان والجماد هي من الأسباب التي بها يحدث الحوادث . قال : ومذهب السلف والأئمة أن الله خالق كل شيء بمشيئته وقدرته ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فقدرته ومشيئته تستلزم وجود المقدور ، ولفظ الاختيار في القرآن والسنة وكلام السلف يتضمن تفضيل المختار على غيره ، قال - تعالى : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ) ، ثم قال : ( ما كان لهم الخيرة ) ، فذكر الاختيار بعد المشيئة ، وقد صار لفظ الاختيار يعبر به عن الإرادة بناء على أن العالم لا يريد إلا ما هو خير من غيره ، أو بناء على أن الحي لا يريد إلا ما يراه خيرا من غيره ، وإن كان قد يغلط في اعتقاده أنه خير من غيره ، والمقصود أن السلف والأئمة وجمهور الأمة يثبتون في المخلوقات قوى وقدرة تصدر الحوادث عنها ، فإثبات القدرة لله - تعالى - وقدرته على الفعل من أبين الأشياء عندهم ، والعلم بذلك من أظهر المعارف وأجلاها ، فإنه قد استقر في فطرهم أن الفاعل لا يكون إلا قادرا ، وأن القدرة صفة كمال ، فإذا كان المخلوق قويا قادرا [ ص: 152 ] على ما يفعله ، فالخالق - تعالى - أولى أن يكون قادرا قويا على ما يفعله .
ومن المستقر في الفطر أيضا أنه إذا فرض الفاعل غير قادر على الفعل امتنع كونه فاعلا ، ولهذا كان من نفى أن يكون للعبد قدرة مؤثرة كجهم بن صفوان ومن اتبعهما لا يسمون العبد فاعلا ، بل يقولون هو كاسب ، وأبي الحسن الأشعري وجهم نفسه كان يقول : ليس بقادر كما أنه ليس بفاعل . وعند الأشعرية أنه ليس بفاعل حقيقة ، بل هو كاسب ، وأنه ليس له قدرة مؤثرة في المقدور ، ومذهب أئمة السلف وعلماء السنة أن الله - تعالى - خالق لأفعال العباد مع قولهم إن العبد فاعل قادر ، يفعل بمشيئته ، وأن الله - تعالى - خالق ذلك كله ، والله - تعالى - إذا خلق للعبد قدرة تامة ومشيئة جازمة ، كان هذا مستلزما لخلق المراد المقدور .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ، يقولون : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأن العبد فاعل قادر مختار ، والله - تعالى - خالق فعله وقدرته ومشيئته ، كما قال - تعالى : ( مذهب السلف وجمهور المسلمين الذي يثبتون القدر والله خلقكم وما تعملون ) ، فإذا حقق العبد هذا المقام زالت الإشكالات كلها ، ويظهر حينئذ أنه لا منافاة بين ( ذلك وبين ) أن يكون الرب قادرا مختارا ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فهو موجب بمشيئته وقدرته ما شاءه من المقدورات ، فما شاءه وجب وجوده ، وما لم يشأ امتنع وجوده ، فهو موجب بذاته الموصوفة بالمشيئة ، وكل ما شاء فهو محدث كائن بعد أن لم يكن ليس معه شيء قديم يقدمه ، فإذا علم هذا وانضم إلى ما قاله السلف وجمهور أئمة السنة أنه - تعالى - يخلق الأشياء بالأسباب وأنه يخلق بحكمة ، علم بأنه - تعالى - قادر مختار .
ولكثرة فروع هذه المسألة وما يتفرع عليها وكثرة لوازمها قال جلال الدين الدواني في شرح العقائد العضدية : الأولى في إثبات هذا المطلب بل سائر المطالب التي يتوقف إرسال الرسول عليها أن يتمسك فيها بالدلائل السمعية ، فيستدل على شمول القدرة بقوله - تعالى : ( إن الله على كل شيء قدير ) ، وعلى شمول العلم بقوله - تعالى : ( والله بكل شيء عليم ) ، وأمثال ذلك .
ولما فرغ من تعداد السبع صفات التي يثبتها المتكلمة الصفاتية وغيرهم ، شرع في ذكر ما لها من المتعلقات ، وتقدم أن الحياة لا تتعلق بشيء ، فقال :