الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القاضي شريح يتزوج زينب التميمية

حدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا عبد الله بن الضحاك قال حدثنا الهيثم بن عدي عن الشعبي قال ، قال لنا شريح : يا شعبي عليكم بنساء بني تميم فإنهن النساء ،  قلنا : وكيف ذلك يا أبا أمية؟ قال : رجعت يوما من جنازة مظهرا فمررت بخباء فإذا بعجوز معها جارية رؤد ، فاستسقيت فقالت : اللبن أعجب إليك أم الماء أم النبيذ؟ قال قلت : اللبن أعجب إلي . قالت : يا بنية اسقيه لبنا فإني أظنه غريبا ، فسقتني ، فلما شربت قلت : من هذه الجارية؟ قالت : هذه بنتي زينب بنت حدير إحدى نساء بني تميم ثم من بني حنظلة ثم من بني طهية ، قلت : أتزوجينيها ، قالت : نعم إن كنت كفؤنا ، قال : فانصرفت إلى منزلي ، فامتنعت من القائلة ، فلما صليت الظهر وجهت إلى إخواني الثقات : مسروق بن الأجدع والأسود بن يزيد فصليت العصر ثم رحت إلى عمها وهو في مسجده ، فلما رآني تنحى لي عن مجلسه ، فقلت : أنت أحق بمجلسك ، ونحن طالبو حاجة ، فقال : مرحبا بك يا أبا أمية ، ما حاجتك؟ قلت : إني ذكرت زينب بنت أخيك ،

[ ص: 568 ] فقال : والله ما بها عنك رغبة ولا بك عنها مقصر ، قال : وتكلمت فزوجني ثم انصرفت فما وصلت إلى منزلي حتى ندمت وقلت : ماذا صنعت بنفسي ، فهممت أن أرسل إليها بطلاقها ، ثم قلت : لا أجمع بين حمقتين ، ولكني أضمها إلي ، فإن رأيت ما أحب حمدت الله تعالى ، وإن تكن الأخرى طلقتها . فأرسلت إليها بصداقها وكرامتها ، فلما أهديت إلي وقام النساء عنها قلت : يا هذه إن من السنة إذا أهديت المرأة إلى زوجها أن تصلي ركعتين خلفه ويسألا الله عز وجل البركة ، فقمت أصلي فإذا هي خلفي ، فلما فرغت رجعت إلى مكانها ، ومددت يدي فقالت : على رسلك ، فقلت : إحداهن ورب الكعبة ، فقالت : الحمد لله وصلى الله على محمد وآله ، أما بعد ، فإني امرأة غريبة ، ولا والله ما ركبت مركبا هو أصعب علي من هذا ، وأنت رجل لا أعرف أخلاقك ، فخبرني بما تحب آته وبما تكره أزدجر عنه ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولك . قال فقلت : الحمد لله وصلى الله على محمد وآله ، أما بعد فقد قدمت خير مقدم ، قدمت على أهل دار زوجك سيد رجالهم ، وأنت إن شاء الله سيدة نسائهم ، أحب كذا وأكره كذا ، قالت : فحدثني عن أختانك ، أتحب أن يزوروك؟ قال قلت : إني رجل قاض وأكره أن يملوني ، وأكره أن ينقطعوا عني ، قال : فأقمت معها سنة أنا كل يوم أشد سرورا مني باليوم الذي مضى ، فرجعت يوما من مجلس القضاء فإذا عجوز تأمر وتنهى في منزلي ، فقلت : من هذه يا زينب؟ قالت : هذه ختنتك ، هذه أمي ، قلت : كيف حالك يا هذه؟ قالت : كيف حالك يا أبا أمية ، وكيف رأيت أهلك؟ قال قلت : كل الخير ، قالت : إن المرأة لا تكون أسوأ خلقا منها في حالتين : إذا ولدت غلاما وإذا حظيت عند زوجها ، فإن رابك من أهلك ريب فالسوط السوط ، قلت : أشهد أنها ابنتك ، قد كفيتني الرياضة وأحسنت الأدب . فكانت تجيئني في كل حول مرة فتوصي بهذه الوصية ثم تنصرف ، فأقمت معها عشرين سنة ما غضبت عليها يوما ولا ليلة ، إلا يوما وكنت لها ظالما وذلك أني ركعت ركعتي الفجر وأبصرت عقربا فعجلت عن قتلها فكفأت عليها الإناء وبادرت إلى الصلاة وقلت : يا زينب إياك والإناء ، فعجلت إليه فحركته فضربتها العقرب ، فلو رأيتني يا شعبي وأنا أمص إصبعيها وأقرأ عليهما المعوذتين ، وكان لي جار يقال له قيس بن جرير لا يزال يقرع مريئته ، فعند ذلك أقول :


رأيت رجالا يضربون نساءهم فشلت يميني يوم أضرب زينبا

وأنا الذي أقول :


إذا زينب زارها أهلها     حشدت وأكرمت زوارها
وإن هي زارتهم زرتها     وإن لم تكن لي هوى دارها

يا شعبي ، فعليك بنساء بني تميم فإنهن النساء .

[ ص: 569 ] شروح وتعليقات على خبر شريح

قال القاضي : قد روينا خبر شريح في نكاحه زينب من غير طريق ، عثرنا على هذا منها فأثبتناه ، وهو كاف من غيره . وفي بعض ما رويناه ، بيت يلي قوله :


رأيت رجالا يضربون نساءهم     فشلت يميني يوم أضرب زينبا

وهو :


وزينب شمس والنساء كواكب     إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا

قال القاضي : وقد أغار شريح في هذا البيت على قول النابغة في مدح النعمان بن المنذر :


ألم تر أن الله أعطاك سورة     ترى كل ملك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب     إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

قال القاضي : قوله في الخبر جارية رؤد يريد وصفها بأنها في اقتبال شبابها كما قال الشاعر :


خمصانة قلق موشحها     رؤد الشباب غلا بها عظم

وقوله : أهديت إلى زوجها فيه لغتان :  هديت العروس إلى زوجها هداء وأهديت إهداء ، وطرح الألف أكثر ، فكأنه من الهداية لا من الهدية ، وهو أشبه وأليق بالمعنى ، ومن الهداء قول زهير :


فإن تكن النساء مخبآت     فحق لكل محصنة هداء

وأما قول زينب لشريح هذه ختنتك فقد تكلم في هذا قوم من الفقهاء واللغويين ، وحاجة الفقهاء إلى معرفة ذلك بينة ، وإذ قد يوصي المرء لأصهار فلان وأختانه؛ وقد يحلف لا يكلم أصهار فلان وأختانه ، فقال قوم : يكون الأختان من قبل الرجل والأصهار من قبل المرأة . وذهب قوم في هذا إلى التداخل والاشتراك وهذا أصح المذهبين عندي ، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .


محمد النبي أخي وصهري     أحب الناس كلهم إليا

والنبي أبو زوجته؛ ويدلك على هذا قولهم : قد أصهر فلان إلى فلان ، وبين القوم مصاهرة وصهر ، فجرى هذا مجرى النسب والمناسبة في إجرائهما على الطرفين والعبارة بهما عن الجهتين ، وقد قال الله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وقد جاء عن أهل التأويل في قول الله تعالى : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة أقوال : قال بعضهم : هم الأصهار ، وقال بعضهم : هم الأختان ، وظاهر هذا العمل على اختلاف المعنيين بحسب ما ذهب إليه من قدمنا الحكاية عنه ، وقد قال : وجائز أن يكون عبر [ ص: 570 ] باللفظين عن معنى واحد ، وقد قال بعضهم : الحفدة الخدم ، قال الشاعر :


حفد الولائد حولهن وأسلمت     بأكفهن أزمة الأجمال

وقال رؤبة يخاطب أباه :


إن بنيك لكرام نجده     ولو دعوت لأتوك حفده

أي سراعا إلى معاونتك واتباع أمرك ، ومن هذا قولهم : وإليك نسعى ونحفد أي نجد في عبادتك ونسعى في طاعتك .

التالي السابق


الخدمات العلمية